Saturday 21/12/2013 Issue 422 السبت 18 ,صفر 1435 العدد
21/12/2013

أسامة علي أحمد في ديوانه «في شارع دون لافتة»:

القصائد تتأمل وتحنو لتجعل من الشعر فضاء موحياً

لا شك أن الشعر حالة إنسانية فريدة، يطل المبدع المُعَنَّى من شرفاتها على القارئ منتشيا بفيض عاصف من شجن القصيد، لينثر ما جادت به تفاصيل الشعرية على ذائقة لا تزال تحفظ للشعر هيبته وجمالياته الذائبة في الشعور والوجدان، فها هو ابن النيلين شاعر السودان أسامة على أحمد يبث شوق الحنين وأحاسيس الغربة من خلال ديوانه الجديد «في شارع من دون لافتة» محتكما إلى لغة الشعر الجزلة، لكنه يسعى إلى أن يجاري الزمان سرعته، ليقتضب في وصفياته، لكنه اقتضاب غير مخل، إنما ليساير عالمنا اليومي.

فبلا مقدمات يدلف الشاعر أسامة إلى القارئ بقصيدته الأولى « في شارع من دون لافتة» التي تحمل اسم الديوان حينما يهيل على هذه المصافحة البادئة شيء من تعب الشعر، إلا أنه رسم شعري شائك وأليم ومشهد غير مسبوق أبدا:

«هذه القصيدة أتعبتني

أخرجتني من جنون الشعر

للرسم المجاور.

فاندلقت ودون أن أدري

رسمت على هوامش

صفحتي اليسرى

حمامة..»

فالشعر لديه يغلب الفكرة ويستخلصها بل يصهرها لتكون شعرا خالصا قمينا بالتدوين، وحريا بالبحث عن المزيد في تفاصيل هذه القصائد التي تجعل من الشعر فضاء موحياً، وعالما محلقا في تفاصيل الشعرية التي لا يريد لها أن تكون مجرد رصف أنيق للكلمات وحسب بقدر ما تكون أمثولات معبرة بصدق، وأيقونات معبأة بالحكمة.

فالقصائد في هذا الديوان هي ارتحالات عميقة وصور كثيفة ووعي بمجريات زمننا الذي بات لا يعرف تفاصيل المعاني بقدر ما تكون مباشرة إلا أن الشاعر في هذه القصائد التي نتأملها يحاذي في مسيره بين الحقيقة والحلم ليصطفي لنا من الحقيقة ذلك الوجد اللاعج على أماكن بعيدة هناك.. لهى العمر بها في الطفولة وغادرها أسامة إلى المنافي في الغربة بعد أن حل المشيب ضيفا ثقيلا على أصداغه، أما في الحلم فإن الشاعر بارع بما يكفي حينما يضع القصيدة بين (الوسادة والنعاس) على حد ما ذكره في القصيدة الأولى.

فكرة الشاعر أسامة في هذا الديوان تقوم على أساس مكين يؤصل للذكرى، إذ لا تخلو أي قصيدة في هذا الديوان من أن يستبطنها بهاجس يعيد رسم الحكاية القديمة في وجدانه وعقله، لتنهض القصيدة من مواطن الحنين إلى مضانٍ قريبة وبعيدة:

«وكذا انتظاري عند قارعة الهوى

تتسكع الأحلام

في آفاقنا الجرداء،

تنسينا المسافات اكتهال المبتغى،

والروح تركض

لا تمل ضلالها»

فالفكرة هنا مدورة وتعيد رسم تفاصيل القصيد، بل تدوزنه على مقامات معتبرة، تنهل من معين القاموس الشعري المكتنز بمفردات خطاب البوح الشعري المكتمل في توصيفاته، والمثخن بأوجاعه، فلا تغادر أي قصيدة من الديوان إلا وتأخذ منها بطرف الحكاية الأخرى للإنسان الذي يسكنه الشعر والجمال وبهاء مشهد إنساني يثير في الروح رغبة البقاء.

تفاصيل الحياة في ديوان الشاعر أسامة تميل إلى متعلقات الإنسان البسيط ووجده الذائب في الهدوء والعودة إلى الصفاء والهجس بشعر لا يتصدى للقضايا الكبرى أو التحديات القاسية، إنما هو شعر يصف حالات الشوق البريء بين فراشة وغزالة وحمام وغمام وغناء عذب، وروح تسكنها الطبيعة الحالمة وفضاء شفيف وما إلى تلك التداعيات الوجدانية المستمدة من رغبة أكيدة في مهادنة الواقع الأليم.

تميل القصائد في جل الديوان إلى لغة شفيفة وإيقاع شعري متسارع ومحكم العبارات، ودقيق في الاختيارات، إذ لا يطغى المفهوم الشعري الهادف على ما سواه من عناوين .. فللقصيدة هنا دور محدد ينهل منه الشاعر مقاربته الإنسانية الفريدة.

الخطاب الوجداني للشاعر في هذا الديوان يرتقي إلى أسلوب البحث عن لغة مناسبة للموقف الذي يحرص عليه، فلا تفارق القصائد مسحة فأل ووعد يساوق مجد الحياة:

«تسور صوت ندي

جدار الطفولة

قالت: حلمت بطير..

فقلت: ليالٍ تماري

وحلم غويُّ..»

فلا الشاعر يغادر حالته الإنسانية، ولا القصائد راغبة بالتمرد لأن السياق مألوف بجمال العبارات التي يكنها الشاعر وينهل منه بغية أن يخفف على القارئ الذي لم يعد لديه الوقت لأن يتأمل وجه القصيدة وبأي حال تكون .. فالشاعر هنا وبحق برز في تصوير مشهده الشعري بشكل متقن، استمال الذائقة واستدرج القارئ بأسلوب فطن وجميل.

** ** **

إشارة:

 

- في شارع من دون لافتة (شعر)

- سامة علي أحمد

- دار أوراق - القاهرة - (ط1) - 2013م

-يقع الديوان في نحو (76 صفحة) من القطع المتوسط