هدية منه أعتز بها.. وأعتب على سطوره الأربعة التي حملتني من الثناء ما لا أحتمل ولا أستحق.. فما أنا بالأديب الكبير. ولا الشاعر الرائد. ولا المثقف الفذ. كثير عليَّ هذا الإطراء الذي أقدره وأشكره وأعتذر عنه نيابة عنه..
يا عزيزي أنا مجرد طالب مبتدئ ومجتهد في الفصول الأولى من مدرسة الحياة بقدر ما أعرف أزداد معرفة بجهلي فيما لا أعرف.. انتهى العتب..
ماذا عن حقل عقله الشعري المليء بالأشجار. والثمار والأحجار. والأنهار. والبحار الذي أودعها ديوانه في اختصار غير ممل يوحي بثقافة العصر التي تقول.. «كلْ لقمتك وأمشِ» و»قل كلمتك وأمش» حسناً فعل..
موعدنا الأول مع الموعد الأول حيث العبث الطفولي:
بين التردد والحياء طاب اختلاس الحب
في عبث طفولي به رق المساء
حتى ظننا أننا نجمان صرنا في سماء
بهذه الأبيات الثلاثة ترتسم الصورة البريئة في عناق مبكر أمام مشهد رومانسي موغل في الحلم بين قلبين عاشقين يسكنهما الخجل والوجل.
الحب أحياناً لا يحتمل التمهل.. سلطانه أقوى من لحظات الانتظار.. ومع هذا يتمنى شاعرنا أن لا يستعجل:
تمهلْ فالهوى عجلُ
وقد أضناك يا ثمل
وسهر الليل موقده
وبيت الشعر يبتهل
يعذبني.. ويضنيني
وأفرح وهو منهمل
أما وقد سبق السيف العذل.. وأنشب الحب مخالبه في جسد الضعف أمام فتنة الوجدان الملتهب، فإن مذاق العذاب الحلو يظل طاغيا لا يمكن تحمله واستطابة جُمله..
إذا ما النطق أعياني
تقوم مقامه القبل
أيا ليلاي لا تسلي
فمن عيني لكِ الرسل
وددت لو كان العنوان «تحمل» بدلاً من «تمهل»
و»أحلى النساء» عنوان له ما بعده:
لا تغمضي عينيك عني
تلكما بحر أصفاء
بل دهشة الليل المعربد
بالنجوم. وبالضياء
هذا يدفع الحسن جمع
ما يشاء لمن يشاء
كيف التقى البدر المنير
مع الصباح، مع المساء
مشهد بلوري تعانق فيه الضدان وهو يتطلع إلى عينيها حيث عناق البياض بالسواد في تكامل وتآلف:
كيف التقى الضدان منسجمين في أحلى بهاء
بضدهما الغير المنافر تتميز الأشياء الجميلة..
يأخذنا مسار الحب عبر تشعباته ما بين نجوى.. وشكوى.. وشكوك تحتاج إلى براءة..
من قال إني خنتها وذبحتها
وسفحت آخر قطرة من دمها
جملة «إنكارية» أمام مشهد التقاضي في محكمة الحب.. تبرأ التهمة.. وتدرأ عن نفسها الشبهات.. لا شيء يخشاه إنها شاهدة حية تبصرها العين لم تذبح.. ولم تسلخ.. ولم يُسفح دمها..
ألأنني قبلت أخرى غيرها؟
وضممتها. ورشفت منها عطرها
ورحلت في أفق الهوى في عينها
ألأنني ألهمت بعض قصيدة في حسنها؟
تحتج قائلة بأني خنتها!
إنها المرأة بين الغيرة والخوف.. وأحياناً المكر تجعل من الحبة قبة.. ومع هذا صالحها شاعرنا الشهم بقوله:
إني أراكِ حبيبتي في حسنها
في كل فاتنة تميد بقدها
وأحسب بعد كل هذا الإطراء سحبت شكواها.. وتحوّل التقاضي إلى تراضي..
شاعرنا المتجلي ينزع في خطابه الشعري إلى ما يشبه الإثارة لطيفة.. والتأثير عليه بغية استفزازه حتى لا يتحول إلى مجرد تمثال صامت:
لا تقولي للهوى لا. لا. وكلا
فالهوى في مهجتينا قد تجلى
لوعة الشوق جحيم في الحنايا
وصداها في عيوني كم أطلا
اسألي عنها ضلوعي فهي تشكو
وأحكمي في الأمر إنصافاً وعدلا
كم كتمنا الحب فينا. وتعبنا
وابتلينا بالنوى صبحا. وليلا
وسترنا من هوانا ما قدرنا
فافتضحنا في الهوى لمَّا أهلا
دائماً الشكاية له.. لم أسمع لها صدى رغم أنها الطرف الآخر في لعبة الحب.. ربما تركت له الصوت.. واختارت لها الصمت الذي يحدد نهاية اللعبة بدهاء ومكر.. باعتذار. أو باستنكار.. اللاعبون في ميدان الحب كاللاعبين في ميدان الحرب.. حين يتمرد الشوق يزرع في سبيله غابات الشوك.. ماذا عن تمرد شوق شاعرنا؟
بماذا أخط جوابي؟
فصبري ذوى من عذابي
بماذا أبوح إليك؟
وكيف أفسر ما بي؟!
تمرد شوقي عليَّ
فضيع مني صوابي..
تماماً كتمرد الفرس يكون تمرد الفارس.. صهيل خيل.. وصخب عشاق لا يهدأ أو لا يستكين:
تعالي أجيبي نداء الحنين
تعالي ولبي نداء العيون
تعالي فإني وحيد بدربي
شريد، حزين. طريد الظنون
يا عزيزي أتحفظ على الحب الصغير من جانب الرجل أو المرأة أنه يُهدم. ويُهزم. ويموت بسرعة.. الحب القوي في خطابه هو ذلك الذي يحرك دورة الحياة العاطفية.. ويعطي لها نفس الثورة والإثارة.. دون هذا لا يجدي التوسل ولا التسول في معترك الحياة.. ولن يكون هناك موعد بلقاء لا تحسمه استشعار بالقوة.
فارس رحلتنا الموهوب الدكتور عبد العزيز خوجة عبر ديوانه الكبير (رحلة البدء والمنتهى) تعالى على جراحه قابل جفاء الصدود بوفاء العهود.. طرق الأبواب.. استنطق الهجر لم يتبرم.. كان كريماً هكذا شيمة الأوفياء.. كثيرة منه تلك المواقف التي هو بطلها وضحيتها في آن واحد.. لعلها سماحة حب.. ورحابة قلب.. كان حنوناً.. هكذا أسمعنا حنانه لحظة لقاء:
أتيت إليك بقلب ظمي
إلى رشفة من حنان اللقاء
أتيت إليك بشوق الطيور
لعش يقيها ظلام المساء
أتيت إليك فراشة حب
أعانق فيه لهيب الضياء
إلى هذا الحد من الاختراق والاحتراق جاءت مناجاته (لمحبوبته) وكالعادة جاء الصمت مطبقاً دون جواب.. حتى إشارة عن بعد تطفئ ظمأ وجدانه الملتهب..
وما دمنا مع الاحتراق والالتهاب في قصده وقصيده نتأمل سوياً مع شاعرنا حكاية (النار والحطب) وقد كشف نواياها المبيتة:
ليس حبا ما تدعي
حبها النار والحطب
ذلك الشوق كذبة
إنها سنة اللهب
نار في هجعة الدجى
مارد مزق الحجب
كان هو المارد الذي اكتشف الخديعة بعد أن بعثرته على اللظى.. ونثرته على الشهب.. بعد أن لم يبق منه باقية.. ومع هذا الصخب الوجداني الصارخ لم يأبه بها وقد سكبته في عمرها.. وأغرقته دون مطر.
إحدى روائع ديوانه جاء على النقيضين من سابقاتها.. لم يتأوه.. لم يتذمر.. لم ينتحر.. اختار أن يكون صخراً جامداً جلمداً يتحدى الانفعال الذاتي إلى درجة التضحية المرة:
أخيراً قتلت القمر
ودرامية جثتي
فأضحى كلانا حجر
وألقمته حديثي
ودحرجته في الطريق
وأضرمت فيه الحريق
شراراً تطاير ثم انطفا
غباراً تناثر حتى اختفى
لم يعد تعنيه مقولة أحد من العذال كان قوياً في عناده وفي صموده..
أنت الموطن مقطوعة من عدة أبيات الجيات فيها ظاهر.. ذكرتني بمقولة شاعرنا العربي القديم:
أحن إلى الديار ديار سلمى
أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار
الوطن لديه إنسانة تمتلك الحنان والحب والشجن.. والمرابع حيث الذكريات.. والبحر.. تقول كلماتها الأخيرة:
أنت السراة.. وتهامة المجر الأغن
أنت البحر.. لكنها أين السفن؟!
مدي يديك واحضنيني يا سكن!
ماذا عن منطق الحب في قراءة شاعرنا:
سألت.. والدمع بعينيها
في أجمل عين يأتلق
والآهة نار تخفيها
تغلي في الصدر وتختنق
سألتني: هل أشتاق لها؟
كان جوابه حاسما.. وحازما:
لا يا سيدتي أنني مزق
يا أحلى حب في الدنيا
حبي زوبعة تنطلق
السؤال سؤالها هذه المرة.. والاعتذار اعتذاره لأنه مزق.. أو نزق لا أدري على حد قوله رغم منطق ضميره الحي أملى عليه العظة:
قانون الحب تجيره
ورياح الشوق لها عبق
سكناه القلب ومرتعه
والمهد أنيس.. والقلق
والمنطق يرفضه حبي
يحترق الكون واحترق
كثيرة هي الحرائق التي تشتعل على الأوراق فما تحرق.. الحب لا يحرق حتى ولو كان لاهباً.. إنه يقتل دون لهب أو جمر..
تذكرت مقطوعة أبي القاسم الشابي إذا الشعب يوماً أراد الحياة وأنا أقرا قصيدة (منك) في إيقاعها:
أحبك حبا يفوق الغرام
ويسمو بعيداً وراء الستر
فحبك تعلمت لحن الحياة
ومعنى الوجود وسر الزهر
ومنك عرفت أصوغ الحروف
لهيب يحرق قلب البشر
ومنك رأيت شروق الصباح
تألق حبا بذكرى السحر
كانت نسبة إليه ملهمته التي عرفته معنى الجمال.. والغرام. والحنان. والأغاني.. وأشياء كثيرة.. علمته الحياة إلى درجة الانقياد للقيد القوي:
وإني لأرضى بقيدي القوي
أسيراً لديك طوال العمر
لم يفصح عنها.. وأحسبها شريكة حياته وأم أولاده.. مجرد حدس قد يصدق
ماذا وراء ذئب شاعرنا.. لا أخاله حيواناً بل طباع الذئاب وافتراسها:
أن تكوني لعبة من لعبي
أو كتابا قيما من كتبي
أو تكوني في حياتي نزوة
عشت فيها بليالي الطرب
لماذا كل هذا التحليل أو التعليل؟
فأنا طفل شقي في الهوى
وأنا ذئب طموح الطلب
اذهبي يا فتنتي من سبيلي
وإذا ما لحت يوما فاهربي
كان صادقاً مع نفسه ومعها.. حذرها أنذرها ومن أنذر فقد أعذر..
ويبقى السؤال الحائر عن مملكة الشاعر. إلى أي مدى يأخذه خياله وهو يستجمع أفكاره ويطرحها صوراً داخلية منها ما هو قريب من الواقع.. ومنها ما هو مجرد افتراض لواقع حياتي نسجه الخيال أشبه بالحلم المثقل بالهواجس. والوساوس..؟ أحسب أن الشعراء أشادوا مملكتهم بلبنات خيال داعب أفكارهم.. وخواطرهم.. أنهم يقولون ما لا يفعلون.. وقليلاً ما يفعلون.. (يتبع)
للدراسة بقية
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338