هل خُلقت المرأة لتحكي؟ وهل صناعة الحكاية كانت تعويضاً لها عن صناعة القرار الاجتماعي؟ ما معنى الحكاية؟ وقبل التعريف أتطرق إلى خصائصها. تتكون الحكاية من مجموع من الخصائص، فهي نمط لغوي سردي، يحقق وسيلة تعبيرية، تمزج الواقع بالخيال والوهم والانتحال بالإضمار، ويمكن اعتبارها «فن الاحتيال» على الأعراف أو الأنظمة أو الأديان. في القرآن الكريم وصف الله سبحانه وتعالى النساء بصفة «الكيد العظيم»، وكان هذا الوصف نتيجة الحكاية التي لفقتها زوجة العزيز لسجن يوسف عليه السلام. وكأن الكيد هنا إشارة إلى الإجادة في صياغة الحيلة الحكائية، والجودة الفنية في إنتاج الحيلة الحكائية لا تتم إلا عبر توافر خاصية «الصدق الفني» التي توهم المتلقي «بواقعية الحكاية». وتلك الحكاية هي التي مثلت «العقدة الفنية» في قصة يوسف عليه السلام؛ لأنها هي التي أدخلته السجن، وعرفته على الرجل الذي سيتحول إلى فاعل لحظة التنوير في ملحمة يوسف عليه السلام. هل تفوقت المرأة على الرجل في صناعة الحكاية، وتفوق الرجل على المرأة في صناعة الرواية؟ هل كل امرأة تجيد صناعة الحكاية وليس كل رجل يُجيد صناعة الحكاية؟ الحكاية هي نمط لغوي، يقوم على التحيّز من خلال فرض المعتقد الخاص للفاعل الحكائي، في حين أن الرؤية هي نظام لغوي، يقوم على المحايدة؛ ولذلك هي أقرب إلى الموضوعية، والرجل بطبعه أكثر موضوعية من المرأة، والمرأة أكثر وجدانية من الرجل، والوجدانية هنا لا تتعلق بالقدرة العقلية لكليهما؛ إنما المقصد الخاص للفاعل الحكائي. صنعت المرأة الحكاية في المبتدأ لتؤسس منها قاعدة تربوية أو قاعدة ترفيهية أو قاعدة تمردية. والطبيعة القاعدية لغرض المرأة من الحكاية تقتضي منها تكثيف الإحساس الانفعالي لرفض سلوك وتنمية سلوك، أو لتحقيق المتعة الفنية، أو لإثارة وتحريض سلوك مكبوت. وبذلك فالمرأة هي صانعة الحكاية كما أنها مصدر الحكاية، وهي مصدر للحكاية سواء أكان الفاعل الحكائي الرجل أو المصدر، فكيلوباترا وسالومي وبلقيس ألهمن الكثير من المبدعين لصناعة الحكايات.
إن الجانب اللغزّي في المرأة الحاصل عن الجدلية التاريخية هو الذي جعلها مصدراً للحكاية الإنسانية، وتحولها إلى مصدر سواء كونها هي الحكاية أو صانعة الحكاية. قد يعتبر البعض أن صناعة الحكاية هي صناعة القرار؛ لأن الحكاية هي التي تصنع الوعي، والوعي هو الذي ينتج القرار ويديره، وبذلك تصبح المرأة من خلال صناعة الحكاية هي «منتجة جاذبية القوة الثقافية». وقد يعتبر البعض الآخر أن المرأة هي «مصدر جاذبية القوة الثقافية»، وأنا أتفق مع هذا الرأي؛ لأنها في ذاتها تشكل «فضاء علائقياً» عبر تحوّلها وتحويلها إلى «جدلية تاريخية». كما قلت في الموضع السابق، إن «الفضاء العلائقي» هو مجموع الفواعل الناطقة والفواعل الصامتة. وينقسم الفاعل الناطق إلى قسمين، هما «الفاعل الناطق الداخلي والفاعل الناطق الخارجي». وللفاعل الناطق خمسة أنواع: «المؤثِر والمخطط والداعم والمساند والمنفذ»، وكذلك الأمر بالنسبة للفاعل الصامت. ومن خلال تلك التفريعات يتشكل الفضاء العلائقي.
أسست القاعدة التاريخية للمرأة من خلال «الحكاية»؛ ولذلك يمكننا القول إن المدى الذي يمكن أن يُشكل الفضاء العلائقي للمرأة ويحولها إلى مصدر للتجاذب والاستقطاب هو الحكاية التاريخية. وقبل توضيح ما سبق أريد أن أفرق بين «المدى والفضاء»: كل مدى يمكن أن نصنع منه فضاء، وليس كل فضاء يمكن أن يتحول إلى مدى. الفضاء يمكن تعبئته بشبكات علائقية، لكن المدى لا يمكن احتواؤه. ولا أقصد بعدم الاحتواء المجهولية؛ لأن كل شيء قابل للاكتشاف المعرفي هو معرفة وليس مجهولاً، وهذا ما أقصده بالمدى؛ فلا يمكن أن نعتبر المدى مجهولاً ولا يمكن اعتباره أيضاً معرفة مُحققة؛ فهو ما يمكن أن يُصبح معرفة وليس بمجهول، ومتى ما أصبح المدى معرفة انفصل عن أصله وتحول إلى فضاء. والمدى ها هنا مصدر للمعرفة المستقبلية؛ لذا لا يمكن أن يوصف بالمجهولية؛ لأن المجهول لا يؤسس معرفة، وبذلك نحن أمام قاعدة «الانتفاء بالانتفاء». لا يمكن أن يكون المدى مساوياً للمجهول؛ لأنه لا يمكن تأسيس معرفة على مجهول، و»الوجود بالوجود». إن تأسيس المعرفة يعتمد على وجود إلهام المدى. هل هذا يعني أن المدى عبارة عن مجموعة من الفضاءات العلائقية؟ لا يمكننا اعتبار المدى مجموعاً من الفضاءات العلائقية فقط؛ لأن اقتصارنا على هذا الاعتبار ينفي فاعلية المدى على التمدد والإضافة، وبهذا التصور فالمدى يتصف بالتوالد عبر «فاعلية القص»، والقص هنا أقصد به أمرين: الأمر الأول إخراج الخاص من العام، والأمر الثاني إعادة بناء الخاص وتحوله إلى فضاء علائقي. وهو ما حدث للمرأة الحكاية التاريخية؛ ففصل المرأة عن الكيان الإنساني تم عبر الجدلية التاريخية الأزلية، والفصل هنا معيار تمايز لا نقصان أو إقصاء. وعملية إخراج الخاص من العام تعتمد «استراتيجية التحديد والتعليل»، لماذا استطاعت المرأة أن تكون نقطة تجاذب واستقطاب لتشكيل فضاء علائقي خاص بها؟ هنا أربع خصائص هي التي تحكمت في استراتيجية التحديد والتعليل، هي «اللغزية والفتنة والغواية والخطيئة»، ومن المدهش أن تلك الخصائص رُسّخت عبر حكايات المرأة، التي استغلها الرجل فيما بعد ليصنع فضاءه العلائقي، ووصل هذا الاستغلال إلى انتحال الرجل هوية المرأة.
وللحديث بقية
وقفة: يا سيدي.. أخاف أن أقول ما لدي من أشياء، أخاف لو فعلت أن تحترق السماء، فشرقكم يا سيدي العزيز.. يصادر الرسائل الزرقاء. يصادر الأحلام من خزائن النساء. الأدب الكبير - طبعاً - أدب الرجال والحب كان دائماً.. من حصة الرجال خرافة حرية النساء في بلادنا.. فليس من حرية.. أخرى سوى حرية الرجال. (نزار قباني)
- جدة