ليس سهلاً أن نتحدث عن مسيرة طويلة قطعها العلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي خلال مسيرة حياته مع الكتابة والتأليف والتدوين، تجاوزت في عمرها خمسة وسبعين عاماً، وفي عددها ما يقارب أربعمائة كتاب، المطبوع منها مائتا كتاب.
لكنها لحظة تأمل وتوقف مع هذا الإنجاز العظيم المتنوع الذي يحمل أفقاً ودراية علمية مبكرة.
في حدود سنة 1355هـ كان شيخنا طفلاً يناهز العاشرة من عمره، ويقرأ ويتعلم مبادئ الكتابة والقراءة على أستاذه المعلم الشهير الشيخ محمد بن صالح الوهيبي - رحمه الله.
يقول إنه كان لديه نسخة وحيدة في بريدة من كتاب «جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب» لأحمد الهاشمي فطلبت منه أن يمنحني تلك النسخة إعارة يوم الجمعة فقط؛ لأن الطلاب كانوا يقرؤون عنده كل يوم عدا يوم الجمعة، فأعطاني الكتاب، فأعجبت بطريقة تقسيمه وتبويبه، فكتبت كتاباً على منواله وطريقته، وأسميته «أنيس الجليس فيما تزول بذكره الهواجيس»، وضمنت الكتاب حكماً وأمثالاً وألغازاً وغير ذلك. وقد كان ذلك فكرة لأول كتاب طبعه، وهو كتاب «الأمثال العامية في نجد» المطبوع سنة 1379هـ؛ ليكون بذلك أول سعودي ألَّف في الأمثال العامية في بلادنا متصدراً بذلك ريادة من رياداته العلمية المبكرة العديدة.
أجزم بأنه ليس سهلاً في الستينيات الهجرية، وفي مجتمع نجدي، والتعليم النظامي آنذاك لم يطلق شرارته بعد، أن يكتب شاب عن موضوع جديد غير مألوف في ذلك المجتمع، إلا أن تلك الرغبات المبكرة لدى الشاب محمد عبرت بوضوح عن انطلاق قلمه في التأليف، وتفتُّق مواهبه الغزيرة التي انكشفت بكتاب مغاير لواقعه وحياته العلمية الشرعية البحتة.
كانت كوامن العلامة العبودي الشاب آنذاك تتدفق حماساً، وتلفتت في شتى الاتجاهات بحثاً عن الابتكار والتجديد.
كان إذ ذاك طالباً وأميناً لمكتبة ومديراً لمدرسة ثم معهد، ثم تزاحمت حوله المسؤوليات طوال سبعين عاماً، أمضاها في الوظيفة مؤكداً علو الهمَّة والبحث عن المعالي متذرعاً ومتأبطاً علومه الغزيرة التي التقطها منذ صغره شاهدة بنبوغ فريد لعالِم موسوعي كبير.
لقد اطلعت من خلال ملازمتي لشيخنا العلامة محمد العبودي على تفاصيل أفكاره ومدونات مشاريعه العلمية التي لم تتوقف بل تلاحقه طوال سني عمره المديد بإذن الله، والتي تحمل في كل منها إبداعاً ثقافياً وعلمياً متوقداً.
لم يرضَ لنفسه أن تكون كتبه أفكاراً مكررة وأقاويل معادة وعناوين مبتذلة، لكنه بحث بكل جدية عن الإبداع والتجديد فكانت مساراته العلمية والكتابية شاهدة بذلك.
فكتبه في الرحلات وطريقتها ليست مكرورة أبداً بل يصدر الحديث بمعلومات دقيقة عن الدولة والبلد الذي سوف يحط رحاله فيه، يتتبع أخباره السياسية وقبلها التاريخية، ويعرج على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية.
يلاحق كل ذلك بحسه الدقيق وملاحظته التي ترقب كل منظر أو مخبر أو مشهد؛ فتحظى بالتعليق عليه، ويربط فيه القديم بالحديث، ويمزج الأدب بالدعوة، ويراوح فيها بين الجد وما أسماه الفضول، وذلك كله بتصويره عبر «كاميرته» التي يحملها على عاتقه منذ أكثر من أربعين عاماً.
يعاين المشاهد، ويلتقط الصور لكل حدث يمر، وخصوصاً ذلك المتعلق بأمور المسلمين وأخبارهم وأحوالهم، وبالأخص المساجد والمراكز والجمعيات.
أما معاجمه البلدانية التي صدرها بكتابه العظيم «المعجم الجغرافي لبلاد القصيم» فهو يقدم العالم البحثي والموسوعي بكل تفاصيله وما حواه ذلكم المعجم من معلومات تاريخية وأدبية جغرافية غزيرة.
وُضع المؤلف - حفظه الله - منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في مصاف كبار العلماء الموسوعيين.
أما معاجم الأسر فهو فتح جديد وطريقة فريدة دلف فيها عن طريق الأوراق والوثائق، وهي المهارة التي لم يبرزها سواه بما حباه الله من دقة عجيبة وذاكرة فريدة وتحليل شرعي واجتماعي ومالي لكل وثيقة؛ ما جعلنا أمام ثروة علمية جديدة لم تكتشف.
وهو يظهر في تلك المعاجم مهاراته العالية وقدراته العلمية في معرفة الأشخاص والأعلام والأعيان من الرجال والنساء والتواريخ والأحداث.
بل إن القارئ يعجب مما وهبه الله إياه من قدرات في التمييز بين الأسر المتشابهة والشخصيات المتقاربة؛ فيحسن فرزها، ويتقن التعريف بها في ظاهرة تستحق الدراسة المتأملة.
أما معاجمه اللغوية فهي شاهدة حيَّة على موسوعيته، وأصدر كتباً تحمل الريادة في ذلك، ومنها معجمه الضخم «الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة»، وكذلك الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة. وهو التقاط لغوي معرفي دقيق يستحق أن يستخلص منه دراسات علمية ورسائل جامعية، تتناول هذا الجمع الفريد بتلك الدراسة اللغوية التي قدمها بكل إتقان.
لن أستطيع في هذه العجالة أن آتي على جميع ما كتبه شيخنا في الرواية والأدب وعلوم الشريعة وعلم الفلك ومعاجم الطبيعة والنبات والنخلة.. وكلها تحمل بذات القيمة، وتستنشق ذلكم النفس الاستقصائي الدقيق.
لكن القارئ لكتبه في شتى علومها ومعارفها يدرك بجلاء اللمسات اللغوية والحس والذائقة الأدبية والمعلومة الشرعية والذاكرة التاريخية التي لا تخطئ والمواهب والقدرات والإمكانات التي وهبها الله لهذا العلامة الموسوعي الكبير، حتى عُدّ بلا جدل أبرز المؤلفين العرب غزارة عدداً وموضوعاً.
واليوم حينما نكرّم العلامة الشيخ محمد العبودي في الثلوثية متزامناً مع بلوغ المطبوع من مؤلفات شيخنا مائتي كتاب، بعضها أجزاء عدة ومجلدات عديدة، يصل مجموع صفحاتها إلى عشرات الألوف من الصفحات، فإننا نؤكد - بلا شك - ريادته الأولى على الأقل سعودياً في عدد المؤلفات وتنوعها.
ومن الطريف أن أول مقالة نشرها في حياته كانت في مجلة المنهل سنة 1371هـ.
ومن المصادفات الجميلة أن تلك المقالة تتحدث عن هموم الكتابة والتأليف، وهو لم يدرك بعد أنه سوف يصبح أكثر المؤلفين السعوديين غزارة في التأليف، وسوف يطلع القراء على تلكم المقالة العتيقة التي مضى عليها حتى اليوم أربعة وستون عاماً، والتي تحمل معها ذكريات وأبعاداً رائعة.
وفي الختام، فإن عمل شيخنا في تلك المؤلفات عمل يستحق الدعم والتشجيع والمؤازرة، وهو ما دأبنا في الثلوثية على تحمله والنهوض والقيام به اعترافاً وتقديراً لهذا العالم الموسوعي الكبير.
كما لا أنسى أن أُشيد بالدور الكبير الذي شاركتنا فيه جريدة الجزيرة، ممثلة في القسم الثقافي، وعلى رأسه الزميل الدكتور إبراهيم التركي، الذي أولى شيخنا عناية مشكورة، ولعلَّ هذا الملحق أحد فضائله.
وسنكون سعداء بنشر أية دراسات وبحوث تتناول جهوده العلمية وإسهاماته العلمية وإبداعاته الفكرية والثقافية.
سائلين الله أن يبارك في عمر شيخنا، وأن يمده بعون منه وتوفيق؛ ليكمل بقية معاجمه ومشاريعه الرائدة التي قضى حياته وعمره من أجل نشرها وشيوعها ووصولها للقراء والمهتمين والباحثين.
d-almushaweh@hotmail.com - فاكس: 014645999