كنا استعرضنا في الجزء الأول توضيح مصطلح «الشرق» وملابساته، والعداء المستحكم فكرياً قبل أن يكون عسكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً بين الشرق والغرب. وطرحنا التساؤلات المتعلقة بأهداف الغرب من دراسة الشرق، فيما يسمى «الاستشراق»؛ فحددنا ثلاثة اتجاهات يمكن أن تكون مجالاً لاستقبال تلك الدراسات وتأويل مقاصدها:
1 – الاهتمام العلمي أو الفضول نحو المعرفة؛
2 – الانجذاب إليه بوصفه غرائبياً ومشوقاً (خاصة على المستوى الشعبي، ولدى المهتمين بألف ليلة وليلة على سبيل المثال)؛
3 – الرغبة في السيطرة على الشرق عسكرياً وسياساً واقتصادياً (فكر المؤامرة).
ثم أتينا بمثال من الأكاديميين العرب الذين آمنوا بالسيناريو الأخير هو إدوارد سعيد، الذي ألف كتاباً مضاداً للاستشراق، مع أنه كان من أصحاب «الاستغراب» (لاهتمامه بالأدب الانجليزي واشتغاله بالثقافة الغربية). وقد آلمت تلك الأحكام الصادرة في كتاب إدوارد سعيد الدارسين الموضوعيين في الغرب، الذين أفنوا حياتهم في دراسة الشرق وثقافته وآدابه وتاريخه، دون أن يكون لهم هدف آخر غير العلم. قد يكون لدى بعضهم شيء من التعالي على الشرقيين، لكن ذلك لا يبرر ذلك الهجوم عليهم في كل شيء.
وقد ذكرني هذا بما كتبه جوستاف فون جرونهباوم، الذي يقول: لا توجد دراسات موضوعية قام بها العرب يمكن أن يعتمدها الآخرون مرجعاً لثقافتهم الإسلامية. ويعود هذا العجز إلى ثلاثة أسباب؛ الأول نشأ عن مواقف المدارس الإسلامية القديمة التي تنظر إلى الإسلام بوصفه ديناً نهائياً ذا طابع مغلق، يحتوي بداخله الحقيقة المطلقة، ويملك الطريق الوحيد للإنقاذ. السبب الثاني يتلخص في كون المجتمع الإسلامي الحديث بكامله – بطريقة تدعو للأسف – غير مبالٍ بأصل حضارته وتطورها وإنجازاتها؛ وقد نتجت هذه اللامبالاة عن نظام التعليم الفاشل من ناحية، وعن الانهماك في محاولات التأقلم مع المشكلات الحالية من ناحية أخرى. بل أكثر من ذلك لا تجد طرق البحث العلمي المنتشرة عالمياً قبولاً في تلك المجتمعات. أما السبب الثالث لانقطاع المسلمين في الشرق عن حضارتهم، فيكمن في عدم القدرة على الحوار البناء؛ إذ تصنف كل مناقشة للدين أو الحضارة ببساطة في أحدى الخانات التالية: اعتذارية (بشكل أو بآخر)؛ إصلاحية – أو «رجعية» – كهنوتية؛ دعوة إلى التغريب؛ مناقشة سياسية؛ دعاية.
ويبدو أن المشكلة تكمن في غياب الأنساق القيمية في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، لأن غالبية أفراد تلك المجتمعات لا تتفاعل مع الكتب، ولا الفنون، أو الموسيقى والمسرح؛ مما يعد ضرورياً لتكوين الأمة الكاملة. وفي تحليل دومينيك أورفوا للشخصية الشرقية – والعربية على وجه الخصوص – أنها تظن أنه بالإمكان الحصول على القوة المادية للخصم دون أن يحدث تأثر بأي شكل من الأشكال؛ مما أدى إلى الموقف الملتبس: أي المطالبة بالأصالة وبحق التقليد في آن. وهو ما عبّر عنه جاك بيرك، عندما قال: إن العرب يريدون ألا يشابهوا الآخرين، وألا يختلفوا عنهم. فلو ذكرت أمامهم خصوصيتهم يشعرون بالمهانة، ويطالبون بأن يكونوا مثل قائل تلك الملاحظة، وإن طبقت عليهم نفس المعايير التي تطبق على الآخرين يجفلون، هذا التوهم بأن التكنولوجيا الغربية قابلة للفصل عن خلفيتها النفسية، وللنقل إلى شرقٍ بقي على حاله، إنما هو ناجم عن رؤية مادية اختزالية للتاريخ.
وهذا هو السبب، الذي يجعل كثيراً من العرب يحمدون للمستشرقين إخراجهم للتراث العربي بأبهى صوره، ويعترفون بقدرتهم على الدراسة العلمية العميقة لما تناولوه من نصوص أو لغات أو تاريخ أو دراسات فنية أو اجتماعية؛ لكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يحمل عناوين هم يضعونها لدراسات المستشرقين، ويضيفون بعض أوصاف المجاملات إليها.
- الرياض