تبدو قصص أليس مونرو (83 سنة) الكاتبة الكندية الحائزة على جائزة نوبل مؤخرا مثل لوحات فنية لفنانة متمرسة في رسم أدق التفاصيل، دون تعقيد يذكر، حيث تنساب الصور عبر السطور وتتابع الأحداث بسلاسة مدهشة، تفاجئ المتلقي بعفويتها، وتشده حبكتها المتقنة، ويحيره قدرة الكاتبة على إعادة تدوير أحداث واقعية جهدت الحياة في تكرارها صانعة منها حدث يحمل جينات التفرد.
وتكرس مونرو اشتغالاتها السردية في الوقوف على العلاقات الشائكة بين الأفراد، ومحاولة فهم طبيعة الغرائز البشرية، وأمراض الروح والجسد، فتجد في قصصها مساحة غير قليلة للحديث عن الخيانة، كما تكثف في كتاباتها مناقشة هموم الأنثى من غير انحياز أو تجريم تام للرجل، وفي المقابل ثمة أيضا مساحة لتأمل مخرجات المرض، الشيخوخة، الموت، معاناة الفقد.
وتتكئ قصتها غير القصيرة «نهر منستيونغ» ترجمة أحمد الشيمي، في ثيمتها على موضوعة الفقد والموت والجميل أن الفقد رغم قتامته يأتي في القصة كمحرض على صناعة الذات المبدعة.
تحكي بطلة القصة «ألميدا» وهي فتاة شابة من الأسر المهاجرة إلى كندا، تفقد بعد استيطانهم بفترة وجيزة أفراد أسرتها الواحد تلو الآخر بصورة درامية محزنة لا تستغرق مونرو في الوقوف عليها طويلا بل تعبرها بشكل خاطف، لتحكي عن الفتاة التي ظلت وحيدة تتلهى بالشعر» منذ نعومة أظافري وأنا متيمة بقرض الشعر، رحت أشغل نفسي، أو قل أسّكِن آلامي التي فاقت، على ما أظن، آلام البشر جميعا، بمحاولات متعثرة في نظمه»، وقد ابتدأت مونرو في رسم أحداث القصة من النهاية وبشكل غير مألوف يجعلك تشك أنك إزاء حدث قصصي، حيث يطالعك مطلع القصة بأبيات شعرية:
«أزهار سوسن ودموية،
ونعناع بري،
نجمع ملء الذراعين،
ونرجع جذلين.
تقدمات، ذلك هو اسم الكتاب. كُتِب بحروف ذهبية على، غلاف أزرق غامق. أسفل الحروف نُقش الاسم الثلاثي لمؤلفته: ألميدا جويانت روث. كانت الجريدة المحلية «الفيديت» تنعتها بـ»شاعرتنا». يبدو أن ثمة مزيجًا من الاحترام والازدراء لمهنتها وجنسها كليهما، أو لما يوحي به الاسم والمهنة من أزمة متوقعة. علي غلاف الكتاب صورة فوتوغرافية، واسم المصور في زاوية، ?وفي زاوية أخرى التاريخ : (1865). نُشر الكتاب فيما بعد عام 1873».
وبعد المطلع نجد أن خيوط السرد تنساب لتستطرد الكاتبة في وصف البطلة» كانت الشاعرة ذات وجه أسيل، وأنف يميل إلى الطول، وعينين بارزتين حزينتين سوداوين، يخيل للناظر إليهما أنهما علي وشك السقوط علي خديها مثل دموع عملاقة. اجتمع بعض من شعرها الأسمر حول وجهها في ضفائر مرسلة، أو ستائر مسدلة، مع وجود خيط من شعر أشيب ظاهر للعيان رغم أنها بدت في تلك الصورة لم تتجاوز الخامسة والعشرين. ليست حسناء ولكنها من ذلك النوع من النساء الذي يعمر طويلا ولا يزداد مع الأيام سمنة»، وبعدها تستطرد أيضا في وصف ما ترتديه.
وعوضا عن اللجوء لتقنية «الفلاش باك» لعرض بعض من سيرة البطلة وماضيها، تلجأ الكاتبة لحيلة ذكية فتجعل ذلك مقروءا عبر إصدار البطلة (جاء في التصدير لكتابها: «في عام 1854، جاء أبي بنا ـ أمي وأختي كاثرين وأخي وليام وأنا ـ إلى براري كندا الغربية (كما كانت تسمى حينذاك). كان أبي يصنع عدة الحرب للفرس والإنسان. كانت هذه مهنته التي امتهنها، ولكنه كان رجلا مثقفا يحفظ عن ظهر قلب صفحات من الكتاب المقدس، وصفحات من مسرحيات شكسبير، وكتب إدموند بيرك..» ولتعزيز السياق السردي تعدد مونرو عناوين قصائد كتاب? بطلتها ألميدا: «أطفال في لـهوهم» و«سوق الغجر» و«زيارة لأسرتي» و«ملائكة من ثلج» و«قس عند مصب نهر منستيونغ». بعدها تأتي مونرو بشروحات مختصرة للقصائد، وفي مقطع تالي من القصة تتطرق لموضوعها المفضل وهو انشغالات النساء.
«شيء واحد لاحظته ألميدا على النسوة المتزوجات: كيف أن الكثير منهن يعمدن إلى رسم صورة ما لأزواجهن. يبدأن بأن ينسبن إليهم الأشياء المفضلة لديهن، ثم الآراء والأساليب السلطوية. تقول الواحدة منهن مثلا: نعم زوجي أنيق جدا ويدقق في كل شيء... بهذه الطريقة يتحول الرجال ضعاف الشخصية إلى أزواج، أصحاب بيوت. ألميدا روث لا تتخيل نفسها تفعل ذلك. تريد رجلا لا يحتاج إلى من يصنعه من جديد، واثق من نفسه وصاحب رأي».
وهكذا رأينا كيف تنقلت مونرو في قصتها الطويلة من حدث إلى آخر بعفوية، ودون تقصد للإثارة والتصعيد وكيف أن القصة بدت كقطعة من الحياة، لا تختلف في تفاصيلها عن الواقع في شيء ورغم ذلك يمكنها أن تدهشنا.