وحط رحاله إلى الأبد في حفرة لا تبعد كثيراً سوى بضع كيلو مترات عن مسقط رأسه! فمنها خلقه الله وفيها أعاده، ومنها سيخرجه منها كبقية الخلق، كدتُ ألتقي به في آخر رمق قبل وفاته بيومين للمرة الثانية عندما رتب لي زيارة له أستاذنا الكبير الدكتور عبدالرحمن عدس عالم الإحصاء والقياس رحمه الله ففاجأني بخبر وفاته حيث كان خدناً وصديقاً له ولأنه كان مريضاً في فراشه مدة من الزمن، بعد أن قرر أن يستقر في عمّان فزاد المرض غربته فكان صاحب الغربتين الجسد والروح.
لم يخدم الحظ كثيراً أستاذنا الكبير الدكتور إحسان عباس رحمه الله فذاق منذ صغره مرارة الغربة لإصرار أبيه على أن يخترق طبيعة القرية التي يرعى فيها غنمه وشيئاً من الزيتون والفاكهة فتفرّس فيه النجابة من بين إخوته وتنقّل من دار إلى دار ومن مدينة إلى مدينة ولك أن تتخيل أن هذا غلام صغير لم يطرّ شاربه بل لم يبلغ الحلم بعد!! ولعلّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية كانت في بلاد الشام وقتها تنذر باستعمارات وحروب وتربص يهودي لابتلاع فلسطين قبيل الحرب العالمية الثانية بقليل ناهيك عن شظف العيش والفاقة فكانت الغربة القسريّة شراً لا بدَّ منه! تأخر كثيراً في المغادرة إلى القاهرة لإكمال دراساته العليا بسبب عدم علمه بخطاب الابتعاث وكانت مصر أولى محطات الغربة الخارجية، فحياته كلها في اغتراب داخلي وخارجي ولم يسعد به والداه سوى سنوات الطفولة البحته! ثم بدأت المعاناة في تسيير الأمور والتكيف في بلد لم يعهده من قبل وما إن أُنجزت تلك المهمة حتى شدَّ الرحال وحزم حقائبه إلى بلد آخر يطلب فيه الرزق والحياة، كانت غربة الراعي عبارة عن قصة سردية عبَّرت عن سيرته الذاتية لا إرادياً فقد كتبها على استحياء بعد نصيحة أخيه بكر عباس له بعدم كتابة السيرة الذاتية مباشرة لعدم تركه إرثاً سياسياً أو اقتصادياً يرتكز عليه في كتابته ويكون للقارئ دليلاً لشخصية كان لها تأثيرٌ في تاريخ فلسطين والأردن، لكنها حكاية رجل كان الأدب العربي واللغة بانتظار دراسات وبحوث أثّرت في تطور الأدب واللغة وكانت محط مراجع ورسائل أكاديمية ظلت وستظل محراباً يؤم كثيراً من طلاب العلم والدارسين هذا بالإضافة إلى احترافه للترجمة وإبداعه فيها يفوق المتخصصين في هذا الحقل.
فقد يحدّث المرء نفسه كثيراً في بلد لا عائل لها أن يمزق جواز سفره حين يغيب عن نظره آخر مَعْلَم من أرض وطنه وتظل عيناه تسرق بقايا تتشبث بها ذاكرته ردحاً من الزمن ويسترجعها كلما عاوده الحنين مرة بعد مرة، قلبٌ ينازعه حنين القربى والمودة والألفة وقسوة البعد والعيش لإثبات هوية إنسان بهوية وطن ينتظر أبناءه البررة.
إن غربة الراعي مواساة وتربيت لكل رجل طلّق وطنه رغماً عنه ويعيش على أمل العودة إلى أحضانه مرةأخرى ليبقى في ذمته إلى يوم يبعثون! يعيش ويموت قرير العين بين قومه وعشيرته وأهله وهي عبرة يتخذها المغترب المناضل سلاحاً يدفعه إلى مزيد من الطموح المعطاء دفاعاً عن وطن لا يُسْتَرد إلا بهمة رجال تدرك أن العلم والعمل تبني أجيالاً أقوى من فكر البارود قادرة أن تحرر أرضاً باتت مغتصبة وتستنهض وطناً بات يغط في سبات آن له أن ينفض غبار الزمن، قد لا يجد من الأماني لو سُئل عما يريده من الحياة؟ غير هذه الأمنية والتي حُرم منها سنوات عمره كلها وظل يستجدي الأوطان ويبحث بينهم عن وطن ضاع منه وكله شوق ليكون سكنه وإن كان قبراً فحسب! تقلّبت الدنيا به ودار في فلك الأوطان وكأنّ العباس بن الأحنف قد عناه بقوله:
ونازح الدار أفنى الشوق غربته
أمسى يحلُّ بلاداغيرها الوطنُ
يزدادُ شوقاً إذا دارٌ به نزحت
فما يغيّره عن عهده الزمن
وقد نزحت به دورٌ وما غيّر عهده زمنا وكان وفاؤه ثابت بحنينه لوطنه فعاد كالقمر الذي قُدّر منازل إن لم يكن إلى أرض الميعاد فلأختها ونعم البدل! وهو حلقة متصلة من المغتربين العرب إلا أنه يفرق بأن غربته كانت مبكرة جداً أبى أن يرتضع منها قساوة القلب ونكران الجميل! ثم داهمته غربة العلل كهلاً فكانت سيرته مثالاً للصبر والسلوان.