تابعتُ باهتمام بالغ ما كتبه د. عمر بن عبدالعزيز المحمود تحت عنوان (إجازة الرسائل العلمية) في ثلاثة أعداد متتابعة، وأعجبني كشفُه الحر عن موضوع نشعر إزاءه بالخجل، وعندما تتكشف أمامنا الحقائق -التي نعلمها- نُصاب بخزي مؤقت، نعود بعده لممارسة عملنا، لكي نتابع المأساة وهي تتكرر، وتتكرر معها مواقفنا السلبية التي تخضع لسلطة المجاملات والأستاذ الجاهل والآخر المرائي والطالب المغيب والقاعة المكيفة التي تبهرنا مقاعدها والخلوة غير الشرعية والتقدير الممنوح عن أطروحة غير صالحة للمناقشة، ولحظات البهجة التي يعيشها المهرجون وهم يتناولون الكعك والحلوى بعد انتهاء الكوميديا الساخرة.
مشهد عبثي يكشف عن واقع مرير، فالواقع الذي تشهده الدراسات العليا بجامعاتنا العربية يشعرنا بأننا في مأزق خطير، وعلى أبواب أزمة حقيقية، وهذه الأزمة لا تتجسد ملامحها في المناقشة فقط، بل في مراحل إعداد الرسالة، والبداية عند اختيار الطالب الموضوع، فقليل من الطلاب من لديه رؤية خاصة ورصيد جيد من القراءات، التي تساعده في اختيار موضوعه منفرداً، والأغلبية العظمى هم المغيبون الذين تُفرض عليهم موضوعات معينة من قبل المرشدين أو المشرفين، وهذا بما يتفق وفكر الأستاذ واتجاهه، ومدى ما سيحققه هذا الاختيار من مكانة بين زملائه؛ حتى لا يُتهم بالجهل دون أن يلتفت إلى تلميذه وقدراته العقلية وحجم قراءاته في الموضوع المختار، وتُقدم الخطة التي لا يُعلم من كاتبها، وتُناقش، ويدافع الأستاذ عن خطته -عفواً عن خطة تلميذه- دفاع المقاتلين الذين يقفون في مقدمة الجيش، والطالب يجلس كأبي الهول منبهراً بأستاذه، ومدى ما يقدمه من أجله، ومتنعما في جهله وغيبوبته، وهذا يؤدي إلى نتائج سلبية مؤثرة، يأتي في مقدمتها تعثر الطالب وتأخره في إعداد رسالته؛ لأنه تجاوز عتبة البيت رغماً عنه، وبعد ذلك صدمته الجدران الصلبة، وسُكرت في وجهه الأبواب التي لا يمتلك مفاتيحها، وتأتي النتيجة الثانية ليقدم الطالب أطروحة ضعيفة لا تعتمد منهجاً علمياً دقيقاً، ولا تعبر عن امتلاك الباحث لأدوات البحث العلمي، وتعج بالأخطاء المنهجية والموضوعية واللغوية، أو تكون النتيجة الثالثة -وهي الأخطر- أن يتصل الطالب بصديق لمساعدته في إعداد الرسالة، وهذا عبر وسيلتين للمساعدة؛ الأولى: اللجوء إلى مركز معروف / مجهول يقوم بهذا الدور مقابل أجر مدفوع، والأخرى أن يتفق مع أستاذه فتكون الطامة الكبرى، والجميع يعرف هذا الأمر، ولدينا في بعض الجامعات نماذج تقوم بهذا العمل المشبوه الملوث، ونغض الطرف عنها، والأسوأ من ذلك أن تعتلي هذه النماذج أعلى المناصب، وتتحكم في مقاليد الأمور، وتبقى النماذج المدافعة عن الشرف البحثي أسفل سافلين.
وتستمر المهزلة وتُعقد المناقشة، التي فقدت قيمتها، وتحولت من مشهد إجلال وتقدير وهيبة إلى ضعف ولين وخيبة، ولن نتحدث عن أسباب ذلك، فقد قدم د. عمر عرضا مفصلا، أظنه جاء معبرا تعبيرا واقعيا مجسدا لتلك الأسباب، لكن أحب أن أضيف سببا -أراه مهما- يتمثل هذا السبب في ضياع هيبة الأستاذ، وتحطيم الحد الفاصل بين الأستاذ وتلميذه؛ مما يؤدي إلى ضياع هيبة المناقشة، فبعد ما كنا ننظر إلى الأستاذ نظرة تقدير واحترام، تفرض علينا نوعا من الخشية والرهبة، فنتلقى العلم بقدر من الالتزام والفهم والحوار الهادف، وكلما ابتعد الأستاذ عن سفساف الأمور وترهات الأحاديث زاد انبهارنا به، تغيرت تلك العلاقة في هذه الأيام، وغدا الأستاذ -في بعض الجامعات- أجيراً لدى طالبه، يعامله وفقا لمعايير ذاتية لا تقرها التقاليد الجامعية، ووصل هذا الأمر إلى المناقشات العلمية، ولنا في هذا الشأن أكثر من حادثة وموقف، وآخر هذه المواقف ما شهدناه في مناقشة لطالب يتقدم لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، وقد قدم الطالب ملخصاً لبحثه، فلم ينطق جملة واحدة نطقا صحيحا، وظهر من خلال عرضه عدم فهمه للموضوع، والحفرة العميقة بين المسموع وعنوان البحث، وبدأ المناقش الأول فكانت البداية مخزية، فقد أثنى على الطالب، وتحدث عن مدى حبه له واعتزازه به، ومدى ما يربط بينهما من صلة ومودة، وأكد أن الرسالة مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية، وتكاد تصل نسبة الأخطاء إلى 80% من الرسالة، ويأتي التعليق الفاجع بعد التأكيد الناجع، فيقول الأستاذ «وأمر الأخطاء بسيط بل تافه، وتستطيع التغلب عليه مستعينا بمعلم لغة عربية يدرس بالمرحلة الثانوية فيقوم بتصويب الأخطاء»، هكذا تتبدل الأحوال، فالأستاذ الذي يعلم المعلمين اللغة يحتاج إلى تلميذه ليعلمه، وبعد ذلك ينصرف المناقش عن موضوع الرسالة ليجنح في فضائه الذاتي، فيسرد لنا حكاياته ومواقفه مع زملائه في القسم؛ حتى يغض الطرف عن عيوب الرسالة، وفي الوقت نفسه يكون قد أنفق وقتا معينا، يشعر معه الحاضرون بالملل والضيق، الأمر الذي يجعله يذكر بعض الملاحظات السريعة عن الرسالة، وهذه الملاحظات يفهم منها أهل الاختصاص أن الرسالة غير صالحة للمناقشة وكذلك المنح، وينهي المناقش كلامه بالاعتذار الشديد للطالب، ويطلب منه ألا يغضب من كلامه، ثم يتوجه إلى الطالب فيضع قبلة على كتفه، ويصب له ماء أثناء المناقشة، وهو مشهد لم نعهده منبل في المناقشات العلمية، ثم يتولى بعد ذلك دور المدافع عن الطالب عندما يتولى المناقش الآخر مناقشته، ويوقفه أكثر من مرة، ويطلب منه الكف عن الحديث عندما تشتد المناقشة، وتستمر المسرحية الهزلية بهذا الشكل، ثم تخلو القاعة خلوة غير شرعية، يأتي بعدها التقدير للطالب الذي يحتاج إلى دروس خصوصية في قواعد النحو والإملاء ناهيك عن الأدب والبلاغة والنقد وغيرها، وهذا التقدير يعبر عن الصدمة المتكررة، التي يصاب بها كل من أنفق عمره في البحث العلمي الجاد، وقدم للمكتبة العربية زاداً فكرياً مميزاً، فيحصل الطالب على درجة الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الأولى، وهكذا يفقد الأستاذ هيبته ومكانته في عيون طلابه الذين يستمعون إليه، بعدما يشعرون بتخاذله، ومدى ما قدمه من جهد لتمرير الرسالة، ومكافأة الطالب الضعيف، تلك المكافأة الرخيصة، التي يدفع الفائقون والمجدون ثمنها.
ويبقى قليل من الاستثناء وكثير من الحلم، ويظل البحث مستمرا عن بيئة بحثية نقية لا يشوبها نفاق أو رياء أو مداراة أو مداهنة، وعن الأستاذ / الحلم الذي يترك أثراً في تلاميذه بما يقدمه من علم وخلق ومكانة، وعن طالب جاد يخلص لعلمه فيمنحه العلم ثمرته.