ثمّة اعتقاد خاطئ لدى قطاع واسع من الجمهور، أنّ العمل الأدبي قصيدةً كان أو قصّة أو رواية، لا بدّ له من تجربة عيانية يصدر عنها، وأنّ مثل تلك التجربة بالتالي تمثّل الأساس الذي ينطلق منه المبدع في تشكيل نصّه. وبسبب من هذا الفهم المغلوط فقد راح القرّاء في أحيان كثيرة يتساءلون حول مجريات الأحداث في النّصّ: لماذا فعل الشاعر كذا وقال كذا؟ ولماذا أنهى الروائي روايته بهذه الطّريقة دون تلك؟
وهكذا فالاعتقاد السائد يحمّل الذّاكرة مسؤولية إنتاج النّصّ، في الوقت نفسه الذي يغفل فيه عن دور المخيّلة كمنتج حقيقي له.
ثمّة افتراقات كثيرة ونوعيّة بين عمل كلّ من الذاكرة والمخيّلة، فعمل الذاكرة يقوم على استرجاع الأحداث الماضية من خلال التّذكّر: في الساعة الفلانية في المكان الفلاني كان هناك....، وقد قام ب....، ولذلك فالذكريات هي بمثابة وقائع حقيقية جرت في مكان وزمان محدّدين، وبناء على دقّة التّذكّر من عدمها يمكن للآخرين أن يتدخّلوا ليقولوا أصاب فلان في هذا الجانب أو أخطأ، والسّبب في ذلك يعود إلى أنّهم ربّما كانوا شهوداً على تلك الوقائع في وقت حدوثها.
بالنسبة للمخيّلة الأمر مختلف، فعملها يقوم على الابتكار وليس التّذكّر. أمّا الوقائع التي تبتكرها المخيّلة والأمكنة والشخوص، فليس بالضرورة أن تكون حقيقية! قطعاً هي غير حقيقية، وهي مخلوقة أو مبدَعة بكاملها من قِبَل عين سحريّة تلعب بالعالم، وتُشكّله وفق أهوائها الخاصة. غالباً ما تُصاب تلك العين بالضّجر نتيجة التّصحّر الذي يكتسح الأمكنة والأفكار على حد سواء فتزيد من منسوب الغرائبيّة في العوالم التي تبتكرها. لكنّ المبدع يحرص حتى وهو في أقصى درجات الشطح والتّخيّل على تقريب تلك العوالم من القارئ، وهو بالتالي يجعل إمكانيّة حدوثها واردة في ذهنه.
هناك مجموعة منالأحابيل التي يلجأ الكاتب إلى اجتراحها من خلال النّصّ، والتي تجعل القارئ متأكّداً مائة بالمائة أنّه بين يدي عالَم حقيقي ومحسوس. أتذكّر هنا رواية (امرأة في الرمال) للروائي الياباني كوبو آبي حيث لجأ الكاتب من خلال أوّل ثلاثين صفحة في الرواية للحديث عمّا أسماه أرض الرمال المتحرّكة، وهي تلك الأرض التي تحدث فيها وقائع الرواية. من الأشياء التي أتذكّرها أنّه أفاض في وصف تلك الرمال وذرّات التراب، إلى درجة أنّه تحدّث عن قطر تلك الذّرّات! طبعاً كل ذلك الوصف كان بمثابة أرضية للأحداث التي ستقع لاحقاً، والتي ستجعل القارئ يتابعها بكل انتباه دون أن يسأل عمّا يحدث من وقائع غريبة في تلك الأرض المتخيّلة.
في سبيل ذلك يطلق الشاعر كامل الحرّيّة لمخيّلته بالعمل، ويستسلم لتلك الطاقة التي تندلع من أعماقه لتعيد تشكيل العالم. الروائي يمكن أن يذهب إلى أبعد من هذا الحدّ، وذلك من خلال بحث معمّق يعدّه،ويتناول فيه مختلف الجوانب التي سيتحرّك فيها العمل الروائي.
طبعاً لا بدّ هنا من ضبط إيقاع النّصّ، والعمل على توتيره وبثّ النّار في أوصاله، فالنّصّ هو بمثابة كائن يتنفّس. ليس شرطاً هنا أيضاً أن يمرّ الكاتب بالتّجربة إيّاها التي تناولناها بالحديث في بداية المقالة. قد تكون بين يدي الكاتب ذكريات، تجارب من هذا القبيل، ولكنّه لا يجعلها أساسيّة في بناء عمله. يمكنه أن يأخذ منها ما يناسبه في هذا العمل. الأمر هنا شبيه بفكرة بناء بيت جديد، يمكن لنا أن نستخدم فيه بعض الحجارة من بقايا بيوت وأبنية كانت قائمة. العملية كلّها إذن قائمة في الوهم كما يقول أبو نواس، ألم يقل العرب أعذب الشعر أكذبه!!