*يحمل الليل رموزًا كثيرة في الأدب العربي شعره ونثره، وإن كان ساكنًا لدى جبران مثلاً وتختبئ فيه الأحلام، إلا أن ليل الصعلوك مختلف عن ليل غيره من الناس، لأنه لا ينام مثل»خليي البال»، فهو ليس مترفًا ولا يملك من المال سوى حسام كلون الملح كما يقول عمرو بن براقة، وربما كان لتشبيهه سيفَه بالملح علاقةٌ بما يقيم الأود وبخاصةٍ أنه يجعل كسبَه بسيفه- فلا يتكسّب ولا يستجدي أحدًا- إضافة إلى التضاد الذي يظهر في عتمة الليل وحلكته في مقابل لمعانِ السيف وبياض الملح، كما أن الليلَ يصير رفيقًا للصعلوك لا يخشى أحدهما الآخر وتصبح العتمة غطاءً أو درعًا يؤمّن أسبقية المباغتة!
* وفي حين أن الليلَ كان طويلاً لدى امرئ القيس - إن أخذنا الليل بمعناه «الزمني» دون النظر إلى الرمز فيه- الذي يرغب بانقضائه سريعًا ليسعى في نهاره إلى الأخذ بثأر أبيه، لكنه لدى عمرو بن برّاقة الهمداني - وربما غيره من الصعاليك- ليلٌ تستردّ فيه الحقوق، ويتمكّن عمروٌ من الأخذ بثأره من حريم فيقول:
إذا اللّيلُ أدجى واسجهرّت نجومُه
وصاح من الأفراط بومٌ جواثمُ
ومال بأصحاب الكرى غالباتُه
فإني على أمرِ الغَواية حازمُ
فهو لا ينتظر انقضاءَ الليل كالملك الضلّيل، وإن كان كلاً من امرئ القيس وعمرو بن براقة قد أرّقه الليل والثأر إلا أن الأخير فاز في حاجته دون الأول! وفي ذلك يورد القالي في أماليه أن رجلاً من مراد يقال له حريم أغار على إبل عمرو وخيلٍ له واستشار سلمى في أمر الإغارة عليه - وكانت بنت سيدهم ويؤخذ برأيها- وأشارت عليه ألا يفعل لكنه خالف رأيها وأغار وأعاد ما له وأضاف إليه مال حَريمٍ:
تقولُ سليمى لا تعرّض لتلفةٍ
وليلك عن ليلِ الصعاليك نائمُ
وكيف ينام الليلَ مَن جلُ مالِه
حسامٌ كلون الملحِ أبيضُ صارمُ
وعندما طلب منه حريمُ أن يرد إليه ماله امتنع!
* وإن كان الليل عادة يقرن بالبطش والفتك لكنه هنا صار نهارًا وجلاءً وإجلاءً لظلمٍ تعرّض له عمروٌ، ولردّ الحرب التي جرّها عليه أقوامٌ بينما كان هو مسالمًا لا يبدئ أحدًا الحرب أو الغزوفيقول:
وكنتُ إذا قومٌ غزوني غزوتُهم
فهل أنا في ذا يالِ همدانَ ظالمُ
ولعل هذا يعيد إلى الذاكرة رأي ابن أبي سلمى الذي يقول:
ومن لم يذدْ عن حوضِه بسلاحِه
يهدمْ، ومن لم يظلمِ الناسَ يُظلمِ
فهو يرى أن الذي لا يجور يُجار عليه، والحق أن هذا القول يبدو غريبًا من زهير الحكيم، وبخاصةٍ أنه كان في معلقته التي أدرج فيها أبياتًا تمدح السلم ومن جنح إليه وأعان عليه ونعني السيدين هرم بن سنان والحارث بن عوف.
* وتبدو نفس عمروٍ مشرقةً بحكمةٍ منحها له الليل الذي يسهره بينما ينام بقية الخلق عن شوارده، فكأنما هو البومة التي تصيح على الجبال ولا يُسمع إلا صوتها في سكون العتمة، والتي ترى في طيرانها الليلي ما لا يراه «النائمون»، ولعل هذا ما أسبغ على أبيات ابن برّاقة هذا الاتزان فهو حتى حين يعبر عن غضبه لتعدي حريم عليه لكنه يفكر بعقلانية ولا نجد فيه «جهل عمرو بن كلثوم»، وإن كان أبطأ في رد الغزوة فليس ذلك عن جبنٍ لأنه «لا يشبه اليقظانَ من هو نائمُ» كما يقول!
* وعلى الرغم من الأخبار التي تذكر رفقة عمروٍ لتأبّط شرًا إلا أنه عمرًا نال اعتراف القبيلة به فسمّته شاعرها، وهذا لم يعرف عن صعلوك آخر غيره، إذا استثنينا إمارة عروة بن الورد على الصعاليك! إن ليلَ الصعلوك في تراثِنا العربي حكايةٌ عذبةٌ طويلةٌ، تستحقّ القراءةَ والتأمل.