لا تعض روحكَ بأسنان الغير
وتُرقْ دمكَ في أقداح السكارى
هذه ليست عظات
بل كلامُ مجرِّب
لا يرغبُ في أن يقول لك
بعد فوات الأوان
وبكل برود: «نعم كنتُ أدري!»
الشِّعْر مجدداً! الكائن مُعَاد التعريف. الضرورة والترف معاً. الذي نَفْهَمه أكثر من أن نَفْهَمَ عنه!
بين يدي كتاب بحجم دفتر الهاتف المستطيل. كتاب شِعْر خام، أستطيعُ قراءته ابتداءً بالفِهْرِس إن شئت. مليء بما لا يعترف بالترتيب، إلا أنه مرتب فيما يخص الشِّعر على نحو عميق طيّب جداً! (بعض الظن) للشاعر والروائي: طارق الطيب. لن أكتب بَدءًا عن تجربة الطيب أو شكلها من حيث الهُوية، فلستُ أهلاً لذلك ولا وشائج قربى بيننا!! لأنها تجربة مدهشة في كل مرة. إلا أن فيها أيقونات كثيرة تستوجب القراءة، والكتابة التأملية، ووحده من يكتبها. الكلاب، تَكَسّر الأطباق، الظلال المفاتيح، الوطن، القضايا، المدن الجميلة... بفلسفة الشاعر ورؤيته لزوايا هذا الكون الذي لا يُظْهِر استدارته إلاّ في لحظة دوران ضميري، بطريقة تبدو عادية جداً للمرة الثانية والثالثة؛ لأنها لا تحقق فكرة السطح والمرة الأولى.
كثير من الشِّعر يحقق الدهشة هنا، والدهشة التي حققت الشِّعر، حيث إنه/الشِّعر دهشة على الدوام كما يقول إزرا باوند. وهنا هي/الدهشة سيدة كل التقاطاته. فقد ظل يشعرني طوال الشِّعر أنه يكتب بالحياة أو بنفسه وهو يخترق الهواء ويسير بين البشر، بجلسة على طاولة للإفطار والشاي، بخطى قدميه بكل ما حوله.. والمؤثر الصوتي هدير الحافلات ونباح الكلاب، والمآذن البعيدة، وأجراس الكنائس.... كل شيء يشعرك بأنه كتب في النهار على هامش الحياة ومتنها في هذا الدفتر شكلاً، والحياة المُدَوّرة عملاً!
« في المطاعم والمقاهي
تموت أشياء بعمر قصير:
يسقط الكأس
ينكسر
النادلة تعتذر
يموت الكأس
وآخر ينتظر
يسقط الكأس
الحديث ينكسر
النادلة تعتذر
يموت الحديث
وآخر ينتظر»
ثم يخبرنا الطيب عن الشاعر، وعلاقة الشاعر بالخارج دائماً حين الآخرين:
«يقول جيران الشاعر:
إنه لا يعمل شيئاً
يقول الشاعر عن جيرانه:
إنهم لا يفعلون شيئاً!
واحد لا يفهم الأغلبية
وأغلبية لا تفهم الواحد»
ولحظة صغيرة من نافذة الغربتين، غربة روح الشاعر وغربة روح المغترب، لحظة إطلالة على الوطن القديم ومآلاته:
«وطن من حناجرنا الصغيرة
تركناه وتركنا النشيد
بات وطناً لحناجر غليظة لا تستحي
فتفعل ما نراه»
وعن التفاصيل الجميلة التي تضمرها المدن، وعدسة اللحظة وهي تستخدم التقنية العادية العالية:
«معظم حمام فيينا
لا يطير
كأنه بط
إن طار
لا يُطيل
إنه حال المدن الهادئة
التي لا تفزع الحمامات
تحولها مع الوقت
إلى بط»
وحين لهاث المدن الجميلة حين يَكون هماً آخر عليها ومنها، والأسرار التي يعرفها الغرباء عن المدن أكثر من أهلها:
«بعض المدن
تعشق الأقدام
وتكره الإطارات»
أو من قصيدة أخرى:
فيينا
المدينة التي تفقد فيها ظلك
إن أطلت السير فيها
أو أبطأت
كأن الظل
يغوص في طرقاتها ويبلى»
أو :«كل البريق
الذي تراه هنا مبهرجاً
المدينة التي لا طين فيها
لا تزرع شجرة
المدن التي تزرع الإسفلت
تحصد اللهاث»
تشعر وأنت تقرأ هذا الدفتر أنه دليل استخدام لبعض مشاهد الحياة. فكأنك كنت تسير معه فعلاً في أحد شوارع فيينا أو القاهرة، وشوارع كثيرة من أوروبا التي تنقل بينها وبين مصر في رحلات الحياة. ويُعلِّق على المشهد اليومي بشعر يومي حقيقي.
كالحقائق الطيبة الصغيرة هذه:
«لم يكن ما دخلت منه باباً
لكنه انفتح للدخول»
وتأملُ الطيب (الطيب) أكثر من أربعين سنة:
«بعد أكثر من أربعين عاماً
انتبهت للمرة الأولى
أنني في لغتي
كلما نطقت: نعم
أغلقت فمي
وكلما نطقت: لا
ظلّ فمي مفتوحاً»
وأودّ أن أخبر الطيب بأن أفواهاً كثيرة الآن تُفْتح على شدقيها بـ (لعم)!!
وأودّ أيضاً لو عرفتُ سرّ لاوعي الطيب الذي يستدعي الكلاب في كل نص. ولِمَ قال عنها بأنها لا تتكرر!؟
«يلومني البعض
لأني أكتبُ عن الكلاب
لكني أشعرُ بأن الناس تتكررّ
لكن الكلاب لا»!
اقترفت هذه القراءة السريعة لظل الطيب وظنه، وأشعر أنني لا أنصفه فقد بقي في دفتره الكثير من الحياة والأسئلة والظل....