استكمالاً للحلقة السابقة، المتعلّقة بالانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى على أساس اقتصادي جديد، ومنظومة حقوقية وسياسية ملائمة لتثبيته ونموه متناغمًا مع عملية التغيير، نجد أن النظام الرأسمالي انتصر على التشكيلات الاجتماعيَّة السابقة في القرن الثامن عشر، ابتداءً من الثورة الفرنسية بسبب تفوقه الاقتصادي. هل يوجد نظام اقتصادي آخر، يفوق الرأسماليَّة إنتاجية؟ وهل هذا النظام الجديد قادر على ازاحة الرأسماليَّة المتوحشة، التي وصلت إلى مرحلة الاحتكار المافيوية، التي لا تتورع عن استقدام أقذر السبل للإبقاء على امتيازاتها؟
قد يبدو الأمر مستحيلاً، ولكن إنشاء مجتمع عالمي موحد (العولمة) تتوزع فيه الثروة والعمل بعدالة ومساواة، كان ولا زال مطمحًا للبشرية جمعاء، حيث إنه من المفترض أن يلغي الحروب والفوارق ويؤسس لنمو اقتصادي - اجتماعي متوازن، ينشد الازدهار المتسارع للإنسانيَّة أجمع.
إذا كان الانتقال من التمزق القبلي العشائري في بقعة محدودة من الأرض يُؤدِّي إلى بناء مجتمع يحقِّق تراكم للثروة والإنتاج والفكر والفن وغيرها، فماذا يحقِّق الانتقال إلى مجتمع إنساني واحد؟ لا بُدَّ وأنه يحقِّق إنجازًا نوعيًا حلمت وتحلم به كافة الشعوب، ولكن هذا الانتقال مشروط بظروف تاريخية وجغرافية، والأهم من ذلك موازين القوى العالميَّة المتصارعة.
جرت محاولات عديدة تاريخيًّا لإنشاء مجتمع بشري موحد، وأول محاولة قام بها الإسكندر المقدوني، الذي ذكر في القرآن الكريم بـ(ذو القرنين)، حسب الأقوال المتوفرة لبعض المفسرين، لأنَّه كان يضع تاجًا على رأسه له قرنان.
محاولة الإسكندر باءت بالفشل، لأن الظرف التاريخي لم يكن مواتيًا، فلا العلم ولا التكنلوجيا وصلتا إلى المستوى المطلوب لهذا الغرض، كما أن الوعي الإنساني في ذلك العهد لم يكن قادرًا على تحقيق مثل هذه النقلة النوعية العظيمة.
الأديان وخصوصًا السماوية نادت بـ(العولمة)، فالأنبياء عليهم السَّلام لم يقدَّموا أنفسهم مرسلين لشعب أو فئة معينة، بل للبشرية كلّّها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، أيّ أن إنشاء مجتمع إنساني موحد هو (رحمة) وليس (نقمة).
استحثت الأديان الشعور (القومي) لهذا الهدف السامي، فاليهود (شعب الله المختار) كما يقولون وفي القرآن الكريم عند توجيه الخطاب إلى بني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} البقرة 47 ولكن المقصود من ذلك كما الحال بالنسبة للعرب {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرجتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران، أن تهبوا لبناء مجتمع إنساني موحد (عولمة) يسوده العدل والمساواة ويعمل من أجل النمو والازدهار وليس من أجل اضطهاد القوميات والشعوب الأخرى.
تأكيد السنَّة النبويّة على أن (لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى) يهدف إلى عدم الذهاب في المشاعر القومية إلى الناحية السلبية، فهي ضرورية للبناء وليس للهدم.
يوجد خطأ شائع في الأدبيات الفكرية والإعلامية، التاريخية منها والحالية، أن اهناك (أيدلوجية قومية). هذا الخطأ غير مقصود أحيانًا ومقصود أحيانًا كثيرة.
أيدلوجية قومية: تعني منظومة فكرية قومية، أيّ منظومة عربيَّة وأخرى كردية وثالثة هندية ورابعة بلوشية وخامسة فارسية... إلخ. لا توجد للفكر قومية، القومية هي شعور والفكر هو صفة إنسانيَّة عامة. هل سمعت يومًا عن أيديولوجية أمريكيَّة أو بريطانيا أو فرنسية، أو حتَّى أطلسية إذا تجاوزنا مسألة القوميات؟
ابن خلدون كان عربيًّا وعندما استنتج بتفكيره المكمل للنتاج الفكري الإنساني الذي سبقه، أن التاريخ يجري ظمن قوانين، أصبح استنتاجه ذاك أساسًا لعلم التاريخ، الذي نشهده اليوم في العالم كلّّه.
لا بُدَّ أن نعترف بالتفاوت الفكري بين الشعوب، وهو تفاوت ظاهر ومؤلم في كثير من الأحيان، وذلك ناتج عن مستوى التطوّر أو التخلف الفكري لأيِّ شعب، وهذا بالذات ما يدعونه (الخصوصية).
خصوصية أيّ شعب أو مجتمع تتعلّق بمقدار تخلفه أو تقدمه، وهي التي تحدد علاقة هذا المجتمع بالشعوب الأخرى أو بالخصوصيات الأخرى، وهذه الخصوصية لها أبعادها التاريخية والجغرافية والديناميكية، التي تجعلها مميزة عن الخصوصيات الأخرى من جهة، ومساهمة في إنشاء (عمومية) إنسانيَّة عامة من جهة أخرى.
خصوصية أيّ مجتمع قبل مائة عام تختلف عن خصوصية ذات المجتمع اليوم. كما أنها داخل أيّ محتمع هي جزء من الصراع الاجتماعي العام، وبالتالي هي أداة في يد القوى المتصارعة، وبإمكانها أن تكون مساندة لعملية التغيير أو قامعة لها.
لتوضيح الفكرة أكثر نورد مثالاً: لكل فرد في أيّ مجتمع خصوصية فلا يوجد أفراد متماثلون في كلِّ شيء، ولكن ذلك لا يمنع من أن هؤلاء الأفراد ذوي الخصوصيات المختلفة يسهمون في البناء الهرمي للمجتمع ولا يضطر أحدهم لإلغاء خصوصيته كي يسهم في البناء الاجتماعي، ولكن عندما يحاول أحدهم فرض خصوصيته بالقوة وإلغاء خصوصيات الآخرين يكون بذلك - حتَّى لو نجح مؤقتًا- قد ساهم في هدم البناء الاجتماعي. أيّ أن الخصوصية لها وجهان، أحدهم إيجابيّ وضروري والثاني سلبي ويعيق التغيير.
أما بالمعنى الاجتماعي الكوني الأوسع، فخصوصيات المجتمعات المختلفة إما أن تسهم في قمع التطوّر البشري العام، وهذا هو وجّهها القبيح، أو أن تسهم في دفع عجلة التطوّر البشري العام، وبالتالي تذوب في عمومية إنسانيَّة شاملة وتكف عن كونها خصوصية، وهذه هي (العولمة).
اذًا العولمة هي تشكيلة اجتماعيَّة بشرية عامة، تتميز بإنتاجيَّة اقتصاديَّة هي الأعلى على مرِّ التاريخ، تنصهر فيها جميع المجتمعات بحضاراتها وتاريخها ونتاجاتها الفكرية والفنيَّة واللغوية والإبداعية، لتنتج طورًا أعلى من المجتمع لم نعهده من قبل، يؤسس لملكية جماعية وما يتبع ذلك من توزيع جديد للعمل والإنتاج والثروة والتطوّر العام المتوازن.
تبدو العولمة وكأنها حلم، ولكن الرأسمال العالمي اكتشف أنها حاصلة لا محالة، فصار يلهث لتسيير هذا التغيير الحتمي لصالحه، وكأنه يريد إدخال الفيل في خرم إبرة.
نحن نعيش الآن مرحلة الفيل والإبرة، ولكن بالرغم من المظهر السوداوي لما حصل من قتل ومذابح إبادة جماعية، إلا أن الأزمة الرأسماليَّة الحالية، أجبرت زعيمة الرأسمال - الولايات المتحدة الأمريكية - إلى تحويل 30 في المئة من رأسمال البنوك إلى ملكية الدولة، أيّ تحويل 30 في المئة من الملكية الخاصَّة إلى ملكية عامة، وسيتبع ذلك إجراءات أخرى تدريجية وحاسمة تأدي إلى تحجيم وحشية الرأسمال وإشاعة رحمة الملكية العامَّة أو المشاعية أو الاجتماعيَّة أو ملكية الدولة.