مرّ التعامل مع الأعمال الأدبية بمراحلَ كبرى منها، مع التحفظ على التقسيمات المعمّمة لما فيها من أوجه الوَهن، مرحلة البحث البلاغيّ القديم ومرحلة الأخذ بالمنهج التاريخيّ ومرحلة التعَلمُن ومرحلة الشك والتوجّس ليشرع، منذ سنوات قريبة، في الاتجاه إلى مرحلة جديدة تبدو في طور التشكل متسِمَة بالاعتداد بالخصائص المميزة للكائن الأدبي والمفردة له.
هذه المراحل الكبرى لم يتخط بعضُها بعضاً أو ينفصل عنه انفصالاً تامّاً، ففي مرحلة الأخذ بالمنهج التاريخي نجد من يقرأ الأعمال الأدبية معتمداً البلاغة القديمة مثلما نجد، في مرحلة التعلمن، من يستعمل المنهج التاريخي، بل إننا نقف، في مرحلة البلاغة القديمة، على آراء ظاهرة الانسجام مع مكاسب مرحلة التعلمن.. وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أن حظ التعامل مع الأدب، في علاج المسائل نفسها، من «التراكم» القائم على التطور الداخلي ضئيلٌ نظراً إلى أن الذي تحكم فيه إنما هو الانتقال، تأثراً بعلوم إنسانية شتى، من فهم إلى فهم آخر ومن نظرية إلى نظرية غيرها حتى كانت الممارسات إلى التعدّد في وجهات النظر (مع انفصال بعضها عن بعض) أقرب منها إلى التجاوز.
قد يبدو استلهامُ التعامل مع الأدب علومًا ومعارفَ حافة به، بحكم المجاورة الزمنية أو التقارب في المكوّنات، أمرًا محمودًا ما دامت المعرفة البشرية كلاً متجاوباً، غير أن بقاءه في اتجاه واحد، من خارج الأدب إليه (فنحن لا نعرف، إلى أيامنا القريبة هذه على الأقل، أن البحث في الأدب قد تأثر به علم آخر من العلوم التي تنعَت بـ»الرّخوة» أو» الصّلبة»)، هو الذي يوقع في الأذهان شيئاً من الشك في سلامته.. وإذا كانت الأعمال الأدبية قد استجابت من ناحية، وفقاً لطبيعتها المنفتحة، لمعظم النظريات المعرفية التي اهتمت بها، رغبة من أصحابها في التوسيع من مجالها أو انبهارًا من دارسي الأدب بالمكاسب التي حققتها، فإنها، من ناحية ثانية، قد ظلت، وهي تجودُ بما يطلبه منها القراء والدارسون، ضنينة عليهم بحقيقة الجوهر الذي تتأسس عليه فرادتها.
النتيجة من هذا أن التعامل مع الأدب ظل يحوّم على حاشية من موضوعه يلتمِسُه في ما يشتبه به ممعناً في اختبار النظريات والمناهج والاتجاهات والنزعات المتنوّعة والمتعددة عليه.. لهذا كان قصورُه ظاهرًا للعيان سواء في مسعاه لإخضاع الأدب، على النحو الذي تخضع به سائر المعارف موضوعاتها، أو في الوصول إلى تبيّن الخصائص الخاصّة التي يتميز بها ويتفرّد.. فالظاهرة الأدبية، من منظور البلاغة القديمة أو المنهج التاريخي أو المناهج المتعلمنة (في اقتصارها على الوصف أو شفعها الوصف بالتأويل)، ما زالت الأسرارُ والخصائصُ المفردة لها عن سائر أجناس الكلام والفنون مكتنفة بكثير من الغموض.. ومن هنا تسرّب الشك إلى إمكان الوصول بالدراسات الأدبية إلى حدّ من الصّرامة لا بدّ منه في الأبحاث العلمية حتى إن بعضهم لم يتردد في تحميل الإمعان في التنظير مسؤولية الخلط المهول الذي أصبح مشاهدًا في الدراسات والنشاطات النقدية.
غير أن باحثين آخرين ظلوا يرون (خلافاً لمَن أصبح، متعللاً بقلة الجدوى، ينادي بالكف عن الاستمرار فيه) أننا لم ننظّر للأدب بما فيه الكفاية وأن واقع المعرفة البشرية، في الإنسانيات خصوصاً، أصبح يتراءى منسجمَ التناغم مع المرحلة التي بدأت الدراسات الأدبية تقتحمها مما يعني أن الإقلاع عن الاستمرار في التنظير شبيهٌ بالمتوقف دون غايته في منتصف الطريق.
فالعقدان اللذان استغرقهما نشوب البحث في الأدب في الشك والتوجس، بعد طفرة الانتشاء بالتعلمن، قد بدآ يسفران عن تحوّل في المعتاد من إجراءاته لا يخلو من عمق، والضغط الناجم عن الانبهار بالعلوم التي تعدّ «صلبة» قد بدأ يخفّ.
فإذا كانت العلوم التي تعدّ «صلبة» قد اضطلعت، في معظم الأحيان، بالرّياديّة في ما حققته من باهر الاكتشافات وانعكست به على العلوم التي تعدّ «رخوة» فإن ما بدأ يدخل عليها من تحوّل (من جرّاء عوامل كثيرة منها مراجعة الوثوق الكليّ في التجربة وبروز شبكات التواصل الإلكتروني وانعكاسه على الملاحظة مثلاً) قد سمح لبعض العلوم الإنسانية بأن تنعتق من إغراء الاقتداء بها على أنها مناويل آسرة قابلة للاحتذاء.. كان من المتوقع أن يؤدّي ذلك إلى تحوّل في العلوم الإنسانية نفسها، في مراتبية منظومتها وفي علاقات بعضها ببعض على وجه الخصوص. لم تعد، على سبيل المثال، الموضوعات التي كانت تحظى بالأولوية أو الأهمية تحظى بهما.. بل إن الموضوعات التي كانت تعدّ تافهة أو هامشية قد اكتسبت من القيمة ما كشف عن أهمية العناية بها (البحث في «الهاتف»وتأثير ه في العلاقات البشرية وفي «القمامة» و»التنويم المغناطيسي» مثلاً لم يكن يذكر بالقياس إلى البحث في الأنظمة الاجتماعية أو السياسية أو العقائد)، حتى إن الدعوة إلى مراجعة منظومة المعارف البشرية لم تعد تقتصر على العلوم «الرخوة» وحدها لأنها تجاوزتها إلى الدعوة إلى مراجعتها في حيّز التصنيف نفسه إلى «صلبة» و»رخوة».
ومما يدلّ على ذلك أن البشرية، بعد سنوات كان يُظن أنها كانت سنوات قحط معرفيّ، تشهد، في الحقيقة، تحوّلات عميقة تؤذن، في الإنسانيات خصوصاً، بتحوّل في منزلة العلماء والباحثين أنفسهم.. فكأن زمن النجومية قد انقضى وانقضى معه زمن جمهرة الثقافة على النحو التقليدي. لم تعد أصوات الخبراء هي العالية فقد غطت عليها، بانفجار التواصل، أصوات الشّداة والمبتدئين وغير العلماء المختصين.. بل إن المعرفة نفسها لم تعد تصدر عن أقطاب معينة أو تأخذ اتجاهاً واحداً من الممتلك لها إلى متلقيها.. قد انتهى زمن العلماء الملهمين والعباقرة النجوم مثلما اعتدنا عليهم ليبدأ زمن يمكن لكل فيه أن يعبّر عمّا يرى أو يعتقد أو يدعو إليه.
قد يعني هذا أن عصر العمل في نطاق المجموعات المتجانسة بدأ يهلّ مؤذناً بمرحلة لاحقة بمرحلة المجتمع المتعلم وناتجة عنها (لم يسبق للبشرية أن عرفت القراءة فيها الانتشار الواسع الذي تعرفه الآن لدخولها بقوة في الحياة اليومية مثلما لم يسبق لها أن تواصلت وتحاورت بالكثافة التي نشاهد الآن).. ومن خصائص هذا العصر أن العلماء المتخصصين في حقل معرفي أصبحوا يقيمون بينهم علاقات التحاور بتبادل الاكتشافات التي يحصلون عليها ومناقشتها على حاشية، في معظم الأحيان، مما تنشره وسائل الإعلام الجماهيرية.
غير أن هذه الظاهرة، وهي تنمو يوماً بعد يوم، قد جُوبهت بكثير من الانتقاد، ففيها تتعرض الجماهير الواسعة إلى «الحرمان من التنوّر الحقيقي وتوسيع الآفاق» أو تتقلص المعرفة الثابتة بحصرها في دوائر ضيقة معزول بعضها عن بعض أو تصاب الثقافة نفسها (ومن الوظائف التي تسند إليها إكساب الشعوب حصانة بالتحام الهوية) بالتشرذم والتمزق (وهو ما يتناقض مع المنتظر منها).. ولكن هذه الانتقادات، وغيرها من قبيلها كثير، تبدو مرتبطة بالماضي أكثر من ارتباطها بالحاضر والمستقبل، فللمعرفة غاية نفعية وكلما كانت أكثر تقدماً كانت أكثر جدوى، فضلاً عن أن الاكتشافات المعرفية (حتى لا نحصرها في العلمية) التي تتحقق كل لحظة في جميع الميادين لم يعد بإمكان أي كان أن يلم بها أو بجزء وافر منها وهو ما جعل الانتقاء يحل محلّ الشمول والانتماء القومي أو الوطني ينتقل إلى المجموعات المتقاربة مذهبياً أو عقائدياً داخل الموطن الجغرافي الواحد وخارجه.
إذا نظرنا إلى الدراسات الأدبية في ضوء هذا السياق الجديد ألفينا البحث المتقدم فيها أصبح يحصل بين العلماء المختصين بعيداً عن الجماهير الواسعة حتى إن ما يذاع منه وينشر على نطاق واسع يبدو متسماً بالتخلف عن حاضره بكثير من العقود وإن الهوّة بينه وبين ما يذاع منه على نطاق جماهيري واسع لا تكف عن التوسّع يوماً بعد يوم.. بل إن الجامعات ومراكز البحث العمومية نفسها لم تعد، حسب بعض الدراسات، الفضاء المناسب لتطوير البحث في الآداب ذلك أن ثقل الماضي يعوقها عن التفاعل إيجابياً مع هذه السياقات الجديدة.