Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
السفير الشيخ في باريس
محمد بن أحمد طيب

 

تعرفت على معاليه وأنا في المرحلة المتوسطة عندما قادتني الصدفة إلى الاستماع إلى حديثه باللغة الفرنسية في الإذاعة السعودية. ومع أنني لم أكن أعرف من هذه اللغة إلا أللمّم غير أنني تأثرت بهذا الوزير السعودي الذي يتقن لغة أجنبية لم تكن معروفة في منطقة الجزيرة العربية آنذاك.

وعندما صدر قرار انتقالي للعمل من ديوان وزارة الخارجية بجدة للسفارة في باريس لم أكن مرتاحاً لهذا القرار، حيث كانت طموحاتي أن أعود لأمريكا كدبلوماسي لأستكمل مشوار دراساتي العليا هناك.. ولم يكن هذا الهدف صعب المنال آنذاك؛ لأن السفير مأمون خيري قباني - رحمه الله - رئيس الإدارة الغربية بالشعبة السياسية التي كنت أعمل فيها كان يحيطني باهتمامه الخاص، وكان يشجعني على أن أكمل دراساتي العليا في أمريكا. غير أن المسؤول في إدارة شؤون الموظفين المعنية بنقل الموظفين نصحني بعدم التردد وتفويت هذه الفرصة؛ لأن العمل مع الشيخ جميل يُعد في حد ذاته مكسباً كبيراً.. وأخذ يستعجلني في تنفيذ القـرار.

لم أكد أنهي لقائي مع هذا المسؤول وأعود إلى مكتبي حتى زارني زميل آخر كان عائداً للتو من العمل في السفارة في باريس، حيث بادرني بالتهنئة وأخذ يصّور لي شخصية السفير الذي سأعمل معه لسنوات في بلاد الغربة. كان هذا الزميل هو الآخر معجباً بقدرات السفير السياسية والدبلوماسية، ولكن لم يخفِ انتقاده شدة صرامة السفير في الإدارة وفي تعامله مع الزملاء في السفارة، منهياً اللقاء بالتمني لي بالتوفيق الذي لم يحالفه هو في تلك المهمة التي لم يكملها!

رحبّ بي معالي السفير بحرارة في أول لقاء معه في مكتبه وأخذ يخاطبني بـ (ابني)... ومنذ ذلك اللقاء وعلى مدى سبعة أعوام تقريباً لم أجد في شخص الشيخ جميل إلا الأب الرحيم، والمربي الفاضل، والمعلم الوقور، والوطني الغيور... الأنيق في مظهره، والبليغ في حديثه بالعربية والفرنسية والإنجليزية. نعم كان حازماً وصارماً ولكن كان يمارس ذلك حيث يتطلب الموقف.

كنّا نحن أعضاء السفارة نشعر أن الشيخ جميل من أولئك الذين يجدون متعتهم وسلوتهم في العمل ويصح أن يطلق عليه مدمن عمل (work alcoholic). فكان دوام السفارة الرسمي ينتهي الساعة الثالثة بعد الظهر فحوله معالي السفير إلى الخامسة مساءً، ومع ذلك لا أذكر قط أننا خرجنا من السفارة قبل الساعة السابعة، بل كنّا، في كثير مـن الأحيان ولا سيما يوم الجمعة وهو يوم إقفال حقيبة البريد الدبلوماسي للسفارة، نمضي سهرتنا في مكاتبنا..

شهدت باريس، في منتصف الثمانينات، موجةً من أحداث العنف والإرهاب ذهب ضحيتها سفير دولة الإمارات العربية المتحدة - رحمه الله - الذي أغتيل غيلة وهو في طريقه إلى مقر عمله. وقد أدت هذه الأحداث إلى نشر الرعب والخوف في أوساط الدبلوماسيين العرب. وكانت تردنا تعليمات مكثفة من وزارة الخارجية بضرورة توخي الحيطة والحذر وإتباع التعليمات الأمنية القاضية بتغيير مسار السير والتقليل من التنقل. فاستغلينا تلك الظروف وكتبنا معروضاً لمعالي السفير نطلب منه أن يعيد الدوام إلى فترة واحدة إلى الساعة الثالثة بدلاً من دوام الفترتين، للدواعي الأمنية، وتنفيذاً أيضاً لتعليمات الوزارة بترشيد نفقات الكهرباء والغاز. تفاجأنا بسرعة قبول معالي الشيخ جميل اقتراحنا. ولتثبيت خطة الدوام الجديد قمنا برفعه فوراً للوزارة لاعتماده مما لا يجعله - كما توهمنا - قابلاً للتغيير. إلا أنه سرعـان ما تبين أن معالي السفير لم يطق البعد طويلاً عن السفارة فأعاد الدوام إلى ما كان عليه ولم يمضِ على تمتعنا بالدوام الجديد إلا يومين اثنين.

تعلّمت منه الكثير.. واستفدت من قربي منه على نحو خاص في الشؤون السياسية والثقافية والإعلامية، فكان يوكل إلي إعداد التقارير السياسية والإعلامية، وكان يطلعني على التقارير التي أعدها هو بنفسه لأراجعها - حسب توجيهه - وأبدي مرئياتي عليها، وكنت أعرف أنه لم يكن في حاجة إلى رأي بقدر إتاحة الفرصة لي للتعلم والإفادة.

وصل إعجابي بما كان يكتبه معاليه أن كنت أقوم بالاحتفاظ بصور من تحريراته لأستذكرها واستمتع بجمال بيانه وعمق تحليلاته وقراءاته الدقيقة للأحداث في فرنسا.

كان ذا مبادرات خلاقة ساعدت في الارتقاء بالعلاقات الثنائية السعودية - الفرنسية إلى أعلى ما يمكن أن تصل إليه.

خلال السنوات السبع التي أمضيتها معه في السفارة استقبلت باريس عدداً كبيراً من قيادة المملكة وكبار المسؤولين فيها. فقد قام الملك فهد - رحمه الله - بزيارتين رسميتين، وزارها أيضاً سمو ولي العهد آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو النائب الثاني آنذاك ووزير الدفاع والطيران الأمير سلطان، وسمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز وسمو الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله -، ومعالـي وزير التجارة الدكتور - سليمان السليم، ومعالي وزير البرق والبريد والهاتف الدكتور - علوي كيال وغيرهم من كبار المسؤولين في الدولـة.

كما عمل الشيخ جميل على تنظيم معارض للمملكة في باريس لإظهار أوجه التنمية وجوانب من الثقافة والتراث. فقد تم إقامة معرض (المملكة بين الأمس واليوم) الذي كان يحمل مسّمى معـرض (الرياض بين الأمس واليوم) وتغير اسمه في محطة باريس بمبادرة من معالي السفير، حيث رفع للمقام السامي بأن الجمهور الفرنسي والأوروبي بصفة عامة يجهلون جغرافية المدن السعودية ولذلك فإنه من الأفضل أن يكون المعرض باسم المملكة لاسيما وأنه يحتوي على معروضات تشمل جميع مناطق المملكة.

في أحد الأيام استدعاني معاليه إلى مكتبه حيث أطلعني على شيك بمبلغ كبير تبرعت به حكومة المملكة لمعهد العالم العربي في باريس.. قائلاً لي إنه لا بّد أن يقدم هذا المعهد شيئاً ملموساً لبلادنا مقابل دعمها السخي له. اقترحت على معاليه أن نطلب من المعهد استضافة معرضٍ خاصٍ عن الحرمين الشريفين، لإبراز منجزات الدولة السعودية في عمارة وتوسعة الحرمين الشريفين والمشاريع التنموية الأخرى في بلادنا.

أقيم معرض الحرمين الشريفين في معهد العالم العربي على مدى ثلاثة أشهر متواصلة، وقد حقق نجاحاً كبيراً مما جعله يجول في عدد من المدن الأمريكية والأوروبية وشمال أفريقيا.

الحديث عن رحلة الشيخ جميل الحجيلان في العمل الدبلوماسي يطول وذو شجون ويصعب وإيفاءه حقه في هذا المقال، إلا أنني أقول بكل صدق وأمانة إن معاليه يمثل النموذج المثالي للقيادة الدبلوماسية السعودية في الخارج.. وطنية وكفاءة.. إخلاصاً ونضالاً.

سنظل نذكره رمزاً شامخاً للدبلوماسية السعودية وعلماً من أعلام الدبلوماسية العربية التي يفخر بها الوطن العربي.

مدير عام فرع وزارة الخارجية بمنطقة مكة المكرمة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة