Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
مواقف بارزة في حياة مثقف كبير
عبدالعزيز بن عبدالله السالم

 

مما لا مشاحة فيه، أن لكل إنسان في دنياه مواقف تتجانس مع اهتماماته، وتأتلف مع طموحاته، وتنسجم مع واقع المجتمع الذي يعيش بين أفراده، كما تلتقي كذلك تطلعاته المستقبلية ونظرته التقدمية، فقد ينشأ مجموعة أفراد في بلدة واحدة وتتاح لهم فرص متماثلة، ويلتقون في مجالات متشابهة، ويسودهم نظام واحد، وتضمهم بيئة واحدة، تؤثر فيهم ويتأثرون بها.. ولكنهم على الرغم من ذلك لا يلتقون في مسار واحد، ولا تطبعهم البيئة الواحدة ببصمة متجانسة، فاختلاف النفوس، وتباين الاهتمامات وتنوع التطلعات: كل ذلك مما يجعل التفاوت بينهم كبيراً والفرق واسعاً: ذلك أن منهم من يكتفي بالحياة السهلة المحدودة الإطار، فيظل طول عمره أسير هذه المحدودية.

يراوح مكانه لا يتجاوزه إلى سواه، والآخرون من حوله يسيرون ويركضون فيتقدمون.. وعلى النقيض من ذلك أفراد متميزون في نظرتهم إلى الحياة وفي تعاملهم معها: تحدوهم طموحاتهم إلى المستويات، العليا فيبلغونها بجدهم واجتهادهم، على حد قول شاعر العروبة المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

وفي ضوء هذا المفهوم كانت سيرة معالي الصديق الأستاذ جميل الحجيلان، وتتفاوت وسائل التفوق والبروز بحسب الاستعدادات الشخصية، والمواهب الذاتية، ومن هنا نجد تفاوتاً كبيراً بين زملاء الدراسة، واختلافاً واسعاً بين عطاء وآخر، وقد عمل فارسنا في مجالات متنوعة، واضطلع بمسؤوليات متعددة، وأبدع في كل ما أسند إليه من مسؤوليات، وما كلف به من أعمال، على امتداد مساحة عمرية من تنوع المناصب وتعدد التوجهات، فكان وزيراً لأكثر من وزارة وسفيراً لدى عدة دول، أبرزها فرنسا التي مكث بها عشرين عاماً أو تزيد، ولعله السفير الوحيد الذي أقام له وأفراد أسرته رئيس الجمهورية الفرنسية حفلة توديع خاصة في القصر الرئاسي.

ومن مزاياه الشخصية أنه يجيد اللغتين الفرنسية والانجليزية: إجادة تامة، حتى إني أذكر عندما قام صدام باجتياح الكويت قامت مناظرة في باريس بين معاليه للدفاع عن الشقيقة الكويت، وفي الجانب الآخر كان سفير النظام العراقي آنذاك يدافع عن نظام صدام مبرراً الاحتلال التعسفي، وكانت المواجهة منقولة للشعب الفرنسي وقد اهتم بها الإعلام هناك، وكان التفوق للشيخ جميل الذي يتحدث الفرنسية كأبنائها مما شد الجمهور الفرنسي لعربي يتحدث إليهم بلغتهم في سلامة نطق ووضوح هدف اكتسب قلوبهم وأثر في مشاعرهم، في حين أن السفير العراقي لم يلتفت إليه الجمهور هناك لأنه أولاً يتحدث باللغة الإنجليزية ثم تترجم بعد ذلك، وثانياً لأنه يدافع عن قضية خاسرة: احتلال وطن مستقل بصلف طاغية مستبد.

ويطول الحديث عن شخصية مثل الأخ جميل ولا نوفيه حقه: ذلك أنه متعدد المواهب، ومثقف بدرجة رفيعة المستوى، كما أنه متنوع الثقافة عميق الإدراك، فهو متميز في ثقافته إلى جانب الثقافات الأجنبية، والموهبة الأصيلة في ذاتها سلاح المثقف الواعي، كما أنها رافد مهم للأديب الموهوب.. وكان عطاؤه وهو وزير عطاءً متميزاً كما كان كذلك في منصبه كسفير، وكانت له مواقف ثابتة، فهو لا تستفزه المعارضة الجانحه، ولا الكلمة التائهة، ولا تؤثر عليه العبارة الطائشة، ولا يحرجه الموقف الأهوج من أي أحمق، فلقد كان يتمتع بإدراك متألق، ووعي متفوق، وحس سليم وثقافة واسعة، وذلك كله ما تؤكده سيرته الذاتية، وتبرهن عليه مسيرته الثقافية، وتدل عليه مكانته الإجتماعية.

ولفارسنا ثروة من المقالات ذات توجهات متباينة في مناحيها، متنوعة في موضوعاتها وأساليبها، على الرغم من مشاغله الإدارية الكثيرة، ومناصبه الرسمية العديدة، وارتباطاته التي تستغرق كل وقته تبعاً لانشغاله بالمناصب القيادية التي تولاها والتي أسندت إليه لكفاءته، وقد أدارها باقتدار، ومع كل هذا فإنه قد استجاب لموهبته فكتب مقالات كثيرة، فهو صاحب قلم جريء وأسلوب بديع، وتوجه صادق، وإدراك ملموس، فهو يوظف العبارة المناسبة في الموضع اللائق بسياقها، ويشد القارئ إلى ما يتناوله من حديث، وما يتجه نحوه من فكرة يوصلها إلى القارئ من خلال أسلوبه الماتع، ويقتضي الموقف هنا إلقاء الضوء على بعض مواقف في حياته من خلال سيرته الثقافية، ومن واقع ما نشره في الصحافة لاسيما صحيفة الشرق الأوسط عبر مقال تم نشره في صحيفة الشرق الأوسط في 22 ربيع الأول 1426هـ الموافق 1 مايو 2005م وذلك تحت عنوان: (عندما قال لي: الدكتور السنهوري): لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك: روى كاتبنا الكبير لقرائه أنه: (في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، كان نصيبي أن أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبدالرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ رئيس مجلس الدولة آنذاك: في شهر مايو 1950م، ما أزال أذكر صوته الجهوري.. وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون مسكونون بخوف شديد: استوقفه اسمي: (الحجيلان) فسألني دون مقدمات هل أنت سعودي؟ قلت نعم، قال بكل جارحة صارمة جادة في وجهي: لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك، سألته، وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يقطع راسي يا سيدي: (قال: ما هذا العبث الذي أنت فيه، أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلد يحكم بالشريعة الإسلامية، وبذلك تكون عبئاً على وطنك، لا أدري بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين فقد تجاوز الموقف قدرتي على المواجهة وجه إلى سؤالاً أجبت عليه باقتدار.. ودار بأسلته على الآخرين، استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا قال: هذا السؤال لك أتجيبين عليه أم أحوله للسعودي، فقالت: إسأله فلن يستطيع الإجابة عليه، وكان أن أجبت عليه أيضاً باقتدار، فقال العالم الكبير: برضه لو كنت بن سعود لقطعت رأسك، قلت لماذا يا معالي الباشا أنت مصرٌّ على قطع رأسي، فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب، أكتفي بهذا القدر من الامتحان).

ويفسر الكاتب موقف السنهوري هذا بأن (الوطن كان في حاجة للمدرس والمهندس والطبيب ولم يكن في حاجة لقانوني في دولة أقامت وجودها على الإسلام نظام حكم وحياة، وأنا أعود إلى بلادي بفكر قانوني استجمعت أصوله من تشريع غربي وبيئة غربية).. على أن دارس القانون لم يصبح عبئاً على وطنه، فقد احتضنته الدولة، كما احتضنت من لحق به من دارسي القانون، فكان منهم الوزير والسفير وشاغلو المناصب العليا في الدولة، وكان هذا الطالب النجيب كما وصفه القانوني الكبير الدكتور السنهوري نجيباً في حياته العملية، كما كان متفوقاً في دراسته القانونية، ولم يكن عبئاً على وطنه، وإنما كان لبنة في صرح هذا الوطن الذي شرف بخدمته في مجالات مختلفة.

وتحت عنوان: (الملك عبدالعزيز ذكرى شخصية)، الشرق الأوسط 3 ربيع الأول 1430هـ الموافق 28- فبراير 2009م، يتحدث عن موقف مفاجئ عن رحلته إلى الرياض ليقوم بدور الترجمة: (قال لي الشيخ يوسف ياسين -رحمه الله- حضر نفسك للسفر غداً إلى الرياض قلت: خير إن شاء الله، قال: ووجهه يضيء بابتسامة السماحة والطيبة: للترجمة بين الملك عبدالعزيز والوزير.. كاد سمعي أن ينكر ما وصل إليه وحسبت معاليه يمازحني في أمر مثير.. وقد لاحظ مظاهر القلق على وجهي، قال: أتهاب لقاء الملك عبدالعزيز وأنت على بعد ألف كيلو متر منه، قلت بل إني أكاد أرتعد من ذكر هذا اللقاء..

قضيت ليلتي نائماً مستيقظاً ونهباً لأحلام مرعبة.

لم أكن قد رأيت الملك عبدالعزيز، هو في خيالي أسطورة من الأساطير، بل إنه جبل من التاريخ، جبل من الهيبة، جبل من السماحة والعنفوان... موحد الجزيرة وسيد الفتوحات، كيف أواجه هذا العملاق وأنا ابن العشرينات لم يشتد عودي ولم أستكمل صلابتي.. لا أعرف من الترجمة مداخلها ولا أحسن مسالكها، فالترجمة علم ودراسة واحتراف، فكيف لي بها بين عمالقة كبار، وماذا لو استعصى علي فهم السؤال أو تعذرت علي ترجمته على نحو ما يجب أن تكون، أو جاء صوت الملك خفيضاً لا أتبين ملامح الكلام، أو طغى عليَّ خوف مفاجئ.. ألف سؤال تزاحمت في فكري المسكون بشتى المخاوف مما تحمله أحداث الغد).

ويمضي فارسنا يقص علينا وقائع الرحلة نحو الرياض بتفاصيل كثيرة تدل على ذاكرة قوية واستيعاب متميز، والرحلة كما رواها كالتالي: (عند الظهيرة من يوم الاثنين 27 رجب 1371هـ الموافق 21 ابريل عام 1952م حملتنا طائرة (داكوتا) ذات سبعة وعشرين مقعداً.. كانت طائرته الملكية الخاصة، كانت مقاعد الطائرة صغيرة ضيقة، وما أزال اذكر كيف كان الوزير بقامته المديدة وبنيته المليئة المتعافية يصارع كرسي الطائرة كي يجلس فيه ويحتويه، استغرقت الرحلة بين جدة والرياض ثلاث ساعات ونصف الساعة، وصلنا مطار الرياض قبيل الغروب.. هبطت الطائرة فيما يشبه الصحراء واندفعت نحو الطائرة سيارات المراسم الملكية تنقلنا إلى قصر المربع في ضيافة الملك عبدالعزيز، لم تكن في الرياض فنادق ولا قصور للضيافة، كان هناك جزء من قصر المربع معداً لإقامة الضيوف، وكان المشهد الذي اختزنته الذاكرة واحتفظت به عيناي: تلك الغرف الصغيرة التي كانت معدة لإقامة الوزير ومرافقيه، تدلت من سقوفها مصابيح كهربائية شاحبة اللون يكاد نورها لا يضيء..

وفي صباح اليوم التالي المحدد لمقابلة الملك عبدالعزيز جاءني سكرتير الوفد الاسباني ليخبرني بانفعال ظاهر أن معالي الوزير لم يجد في غرفته من الماء ما يكفيه لاستحمام الصباح.. كانت الرياض قبل خمسين عاماً كمن يفتح عينيه على الجديد من الحياة، وكان أبرز شاهد على هذا الانفتاح سفلتة شارع المطار القديم وقد ارتفعت على جنباته الشمالية هياكل مباني الوزارات وهي تؤذن بحركة عمرانية مقبلة في عاصمة البلاد، لن أذهب بعيداً في استرجاع الذكريات عن تلك الرياض، المدينة الصغيرة التي كانت تنام بأهلها بعد صلاة العشاء وتحولت لحاضرة عربية كبيرة).

وتحت عنوان: (أعوام الحيرة، وأعوام الضياع) تحدث عن باكورة الجامعيين الذين تخرجوا من مصر وهو منهم، ويفصل القول هنا على النحو التالي:

(في ربيع عام 1951م أي ما يقرب من الستين عاماً اجتمعنا نحن القلة القليلة من الجامعيين في فندق (بنك مصر) في مكة المكرمة، لم يكن عددنا يتجاوز الخمسة عشر جامعياً، كان الواحد يتحدث مع نفسه ومع الآخرين حديث الزهو والخيلاء كأن على رؤوسنا تيجان الفاتحين... دعا لذلك الاجتماع زميل لنا هو الأستاذ أحمد صلاح جمجوم.. واقترح إنشاء ما اتفقنا على تسميته (مدرسة الثقافة الشعبية) وهي مقر يتردد عليه الراغبون في الحضور، حيث يقوم بعض الزملاء بالمحاضرة في التاريخ واللغة الانجليزية والعمليات البنكية والأدب العربي كل في اختصاصه.. ولما كان الحديث في القانون وهو مجال تخصصي أمراً غير وارد، فقد اخترت في الأدب العربي، كنت أعمد في لقائي مع مرتادي المدرسة إلى اختيار بعض ما هو شيق من نثر أو شعر، وأشرع في شرحه وأشركهم في الحديث.. وصادف أن اخترت يوماً قصيدة (نهج البردة) لأمير الشعراء أحمد شوقي ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

وتوالى الحديث في هذه القصيدة الرائعة، والأخوة المشاركون في اللقاء يسألون ويستزيدون من السؤال.. فجاء حديثنا فيها وشرح أبياتها ليضاعف من انبهارهم وإقبالهم عليها على أن الأمر لم يقف عند الأبيات التي غنتها أم كلثوم، بل أتينا على بيتين آخرين في القصيدة كاد الحديث فيهما أن يدخلني في عاصفة لا تبقى ولا تذور، والبيتان هما:

يا نفس دنياك تخفي كل مبكية

وإن بدا لك منها حسن مبتسم

طوراً تمدك في نقمى وعافية

وتارة في قرار البؤس والوهم

جاء شرحي لهذين البيتين مزيجاً من الفظاظة في القول، والاستهانة بما حمله من معانٍ، قلت لهم: إن في هذين البيتين دعوة إلى الاستسلام والقعود عن العمل، دعوة إلى الاستكانة إلى الوهم بأن الدنيا هي التي تبكينا وتسعدنا وأنها كفيلة بكل شيء وأن لاحساب لجهود الإنسان في صنع حاضره ومستقبله، وأن في هذا المعنى نقضاً لقوانين الحياة.. نعم، أن قانون الكون وقانون الحياة يقومان على حقيقة: السبب والنتيجة، والحديث عن دنيا تبكي وتفرح ليس إلا ذريعة للتخاذل وحجة للكسل، وتخديراً للإرادة، وخروجاً على قانون الحياة.. كان طلبتي يستمعون إلي في ذهول بعيون متسعة وفم مفتوح: استماع المفجوع بقولٍ يكاد يزلزل كيانهم، وهالهم في الأمر أن لا يجيء شرحي لتلك الأبيات على شيء من الحذر، بل جاء شرحاً مفرطاً في الثقة بالنفس منكراً على الشاعر الكبير صدق الرؤية، فيما أتى عليه مناقضاً له إلى حد الاسفاف.. كان ممكناً في شرحي أن أكون رفيقاً بهم، وأن اختار خطاً وسطاً يرى الحياة مزيجاً من الاجتهاد والقدر المكتوب، وأن النجاح ليس هبة من السماء فحسب بل إنه ايضاً أخذ بما جاء في كتاب الله من الحث على السعي والعمل الصالح، إلا أن مثل هذا الاعتدال كان قد تراجع مهزوماً في وجه ما استحوذ علينا من مواقف التطرف إلى حد الانفلات نحن جيل النكبه في فلسطين عام 1948م).

***

تحت عنوان: (خواطر من عاصمة السلاطين) بصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ (1) ذو القعدة 1430هـ - 20 أكتوبر 2009م نشر الأستاذ جميل الحجيلان بالعنوان المشار إليه عن تركيا، (وذلك عن زيارة السيد جودت سوناي رئيس جمهورية تركيا، إلى المملكة العربية السعودية رداً للزيارة التي قام بها الملك فيصل - رحمه الله - إلى تركيا قبل ذلك بعامين، وبذلك يكون جودت سوناي أول رئيس لدولة تركيا يزور المملكة العربية السعودية منذ عهد الخلافة العثمانية حتى عهد مصطفى كمال أتاتورك، حرص الكبار من قادة العالم الإسلامي على أن يكون أداء مناسك العمرة والصلاة في المسجد النبوي الكريم في طليعة وقائع الزيارة التي يقومون بها للمملكة، فهي سنة لا يجوز الالتفاف عليها، وهي أيضاً متعة روحية، وتعزيز لمقام الشخصية الزائرة لدى مواطنيها.

على أن زيارة الرئيس التركي قد جاءت خروجاً على تلك القاعدة وصمتاً عليها، فلم ترد في برنامج زيارته للمملكة إشارة عن عزمه أداء مناسك العمرة، وزيارة المسجد النبوي، كما يفعل رؤساء الدول الإسلامية.. كان هذا الأمر على غرابته مفهوماً لدى القيادة السعودية، وهي تسعى لأن تجعل من هذه مدخلاً لعهد جديد في العلاقات بين البلدين، بعد عهد فاتر كان أشبه بالقطيعة.. كان الرئيس جودت سوناي من ورثة هذا الحكم والمؤتمنين عليه، فهو مدعو إذن لأن ينأى بنفسه عن كل ما قد يشكل (خروجاً) على علمانية الدين والحكم والحياة، فلا صلة في العلن، ولا صيام، ولا تردد على المساجد ولا ترتيل لكتاب الله الكريم، كان إعراضه إذن عن أدء مناسك العمرة وهو على بعد ساعة من المسجد الحرام إلتزاماً بالفكر العلماني ووفاء للإرث الذي أؤتمن عليه).

(وكانت المفاجأة: في اليوم الأخير من زيارته أسر الرئيس جودت سوناي، لمضيفه الملك فيصل بن عبدالعزيز برغبته في أداء مناسك العمرة في منأى عن أي تغطية إعلامية، فلا مصورون ولا تلفزيون، ولا مراسلون صحفيون، واقتصر الوفد السعودي المرافق على الضروري منه، وعاد الرئيس التركي من مكة إلى جدة لتقلع به الطائرة إلى أنقرة دون أن يعلم أحد بأدائه مناسك العمرة.. كان جودت سوناي في اعتماره وطوافه بالبيت الحرام: المسلم الذي استيقظ في أعماقه إيمان راسخ رسوخ الجبال، فلم يبال بأن تعلم المؤسسة العسكرية بذلك، وهي في موقف الراصد المتربص لكل من يتطاول على علمانية الدولة إرث أتاتورك، ويحسب لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حساب التحية والتقدير حرصه على أن تكون المملكة العربية السعودية في طليعة الدول العربية الساعية بثقة وإخلاص لبناء أفضل العلاقات مع تركيا ممثلة بحكومة يرأسها رجل حكيم شجاع).

ما سلف نص ما نشره الأستاذ جميل عن تركيا وهو يضيف الآتي: (تداعت هذه الخواطر وأنا أتجول بين المعالم التاريخية لمدينة اسطنبول الحاضنة لأربعة آلاف مسجد، والتي كانت يوماً حاضرة لأمجاد آل عثمان وموئلاً عزيزاً للسلاطين ولشد ما أخذت بمساجدها وقد علقت قبابها مآذن طويلة متناسقة جميلة، ومن تلك المآذن ينطلق صوت يرفع الأذان رخيماً مؤثراً يملأ القلوب بشعور من السكينة والتأمل والخشوع).

ومعلوم أن الإسلام متأصل في أعماق إخواننا الأتراك، فقد كانت موئل الخلافة العثمانية، وقد غزتها العلمانية الوافدة مع أتاتورك، ولكن الإسلام ظل في أعماق المواطنين، وأذكر بهذه المناسبة وقد زرت تركيا ثلاث مرات أن من أهم معالم الزيارة هناك المساجد، وقد حدثني أحد المواطنين السعوديين وكان يذهب بعائلته كل صيف إلى تركيا أنه وأولاده كانوا قد جلسوا في حديقة فسيحة وعندما حان وقت الغداء وضعوا مائدتهم، وكان بالقرب منهم رجل تركي كبير السن فدعوه لمشاركتهم في الغداء وحاولوا التأكيد عليه بهذه المشاركة فلما رأى إصرارهم أفهمهم بأنه صائم صيام تطوع لأنه صادف يوم اثنين، وهو يصوم كل أثنين وخميس، ومعنى هذا أن العلمانية لم تستأصل هويتهم الدينية، وفي العهد الراهن فإن حكومة تركيا الإسلامية حكومة راشدة تؤدي شعائر الإسلام وتؤيد المسلمين، ولذا نرى شعائر الإسلام تؤدى كما يجب، وقد تبوأت هذه الدولة المسلمة المكانة اللائقة بها في نفوس الشعب التركي ولدى جميع فئات المسلمين الملتزمين.

***

وتحت عنوان: الوزير الثوري بالشرق الأوسط 187 جمادى الأولى 1439هـ 24 مايو 2008م صور لنا كاتبنا القدير شخصية عجيبة أطلق عليها العنوان الذي يحمل معنى في ذاته صورة تلك الشخصية الغريبة المهزوزة، وبأسلوبه الساخر يجسد أمامنا هذا الوزير المتعجرف وهذا النص الحجيلاني: (لم يكن في مظهرنا ما يثير الانتباه ونحن ندخل قاعة الطعام في أحد الفنادق في عاصمة عربية إلا لباسنا الوطني الذي كنا نرتديه أنا وزملائي أعضاء الوفد العربي السعودي كان ذلك عند انعقاد مؤتمر وزراء الإعلام العرب في أحد اجتماعاته الماضية، وكان يجلس إلى إحدى الموائد القريبة منا رجل توحي قسمات وجهه بأنه عربي لكن نظراته لم تكن عربية.. أخذ يلاحقنا بعيون فيها نظرات من مشاعر السخرية والازدراء، كانت نظراته كفيلة بأن تدفع بالحليم إلى أقصى آماد الاستفزاز.. وذهبنا في اليوم التالي لحضور الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وإذا بصاحبنا وزير إعلام عربي لبلد عربي وضع نفسه موضع الصدارة من القافلة العربية الثائرة، وكانت نظراته هذه المرة أقل جرأة ووقاحة، وتصافحنا ومد يده بكبرياء دفعت إلى وجهي بابتسامة مليئة بالسخرية والأسى، وشرع مجلس وزراء الإعلام في أعماله، واستطاع وفدنا أن يأخذ بزمام المبادرة وأن يقيم الدليل لذلك الوزير الثوري المتعالي بأن العباءة والعضال ليسا - كما يصر - رمزاً لتخلف والجمود، ونسي أن النضال كان تاجاً على رؤوس من صنعوا المفاخر لتاريخنا العربي والإسلامي.

وفي أحد اللقاءات العابرة سألني ذلك الوزير على مسمع من وزير عربي ثالث من بلادي سؤالاً يمثل صورة محزنة مخيفة من صور الجهل السياسي، كان سؤاله مثيراً لدهشتي فلم أعطه الجواب، ولبثت لحظة أنظر إليه، وفي جوانحي ثورة المظلوم.

قال لي: هل أغضبك سؤالي؟ قلت له: كلا إن سؤالك لم يغضبني ولكن أحزنني، قال: لماذا؟ قلت: لو أن سؤالك هذا جاءني من وزير إعلام كامبوديا أو وزير إعلام تشيلي أو وزير إعلام ساحل العاج، لما رأيت في الأمر عجباً، أما أن يأتيني هذا السؤال من وزير إعلام عربي وضع نفسه في مراتب القادة العارفين يصدر أحكامه السياسية ويضرب ويطرح ويصنف الدول العربية إلى فئة تقدمية متحررة حق لها أن تعيش، وفئة أخرى رجعية متخلفة ليست جديرة بالحياة: أن يأتيني هذا السؤال من ذلك الوزير العربي، فتلك هي الكارثة! ومضيت أقول: إن المصيبة هي أنكم تحددون علاقتكم السياسية مع بلادنا وأنتم في متاهات لاحدود لها من الجهل السياسي وسوء التقدير: إنك تجلس في مكتبك وتحكم على بلدي بالتخلف والجمود وأنت لا تعرف عنه شيئاً، لا عن تكوينه الاجتماعي ولا عن حاضره ولا عن ماضيه ولا عن منجزاته، ولا عن واقعه الحضاري لذلك فنحن لانعبأ بأحكامكم.. وأعترف بأنني كنت منفعلاً وأنا أتحدث إليه.. واعترف ذلك الوزير الثوري بأن أكبر مصادر الخلافات العربية هو قصور كثير من العرب عن معرفة البلاد العربية الأخرى معرفة دقيقة تنتهي بالحكم عنهم إلى الرأي السديد، ومع الأيام القليلة التي شهدت اجتماع وزراء الأعلام ولقاءاتهم المستمرة أضحى صاحبنا (أصدق مشاعر وأكثر ميلاً إلينا).

***

وتحت عنوان: (لم نكن يوماً أشرارا) نشر بالشرق الأوسط بتاريخ 16 محرم 1431هـ - 2 يناير 2010م )في الساعة الثامنة إلا الربع من صباح يوم الجمعة 24 يناير 1991م كنت ضيفاً على القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية في برنامجها الصباحي الشهير: (الحقائق الأربع) الذي يقدمه الصحافي الفرنسي السيد غيرار لوكلير، بادرني بقوله: سيدي السفير لابد أنك قد استيقظت هذا الصباح وأنت سعيد؟ سألته لماذا؟ قال: ألم تسمع الأخبار، ألم تسمع بالطيار السعودي الذي دمر في الجو يوم أمس طائرتين عراقيتين وهما تحاولان الإغارة على مدينة الخبر السعودية؟

قلت: بلى سمعت هذا الخبر، ولكن استيقظت مهموماً ولم أستيقظ سعيداً يا سيدي، قال: لماذا؟ قلت له: إنه لأمر مفجع حزين أن يتقاتل طيارون عرب في سماء عربية فوق أرض عربية، ولم نكن نتجرأ يوماً على أن نتصور أن يحدث أمر مفزع كريه كهذا.. وما إن عدت لمكتبي إلا والنداءات الهاتفية تتواصل تعقيباً على هذه المقابلة.

البعض أثنى على موقف السفير، والعديد من أبناء الجالية العربية أخذ على المذيع ما وصفه بسؤاله الاستفزازي الماكر الخبيث، إلا أن أكثر ما استوقفني من تلك الاتصالات ما أتى عليه جزائري مقيم في فرنسا عندما قال: لقد ظلمناكم يا سعوديين.

فقد كنا نحسبكم أشراراً.. كانت عبارة قاسية مثيرة للمرارة والغضب، رغم ما قد يوحي به ظاهرها من الرجوع عن موقف ازدحم بمشاعر التحامل والجهل، بما كانت عليه سياسية بلادي.

وفي مواجهة هذه الصراحة الفظة كان لابد أن أتساءل؟ هل كانت إجابتي الواثقة بحسمها القومي الصادق كافية لأن تجعل في ميزان ذلك الجزائري ومن شاركه قناعاته، من بلدي أمة من الأكبار الأخيار، وقد كانت في نظرهم شعباً من المكرة الأشرار؟!

وهل كان أبناء الجالية المغاربية في فرنسا ينتظرون من سفير المملكة العربية السعودية في رده على المذيع: أن يزهو وأن يهلل وأن يباهي لأن طياراً سعودياً شجاعاً اسمه عايض الشمراني قد دمر في الجو طائرتين وهما تحاولان بأمر من الرئيس صدام حسين الإغارة على بلد عربي كان بلد المساندة والدعم والإنقاذ في حربه مع إيران؟!

كان السعوديون في نظرهم أشراراً لسماحهم للقوات الدولية المرابطة على حدود بلادهم الشمالية دفاعاً عن النفس وحشداً عسكرياً لتحرير الكويت، فالسعوديون إذن دعاة حرب على المسلمين.. كيف لهذه الجالية المغاربية أن تعلم أن المملكة العربية السعودية هي أول من نقل قضية الثورة الجزائرية للمحافل الدولية بعد شهرين من انتفاضتها، لتجعل منها قضية شعب عربي مقهور: ينتفض لاسترداد وطنه، وليست ثورة عصاة متمردين، كما كان يحلو لفرنسا الاستعمارية تسميتهم، فقد بعث رئيس مجلس الأمن السيد ليسلي مونرو، إلى مندوب المملكة العربية السعودية الدائم في الأمم المتحدة الشيخ أسعد الفقيه رسالة جاء فيها (أتشرف بإخباركم بوصول كتابكم المؤرخ في 5 يناير 1955م وإفادتكم أنه طبقاً لرغبتكم سيجري تقديم نص كتابكم مع مرفقاته إلى أعضاء مجلس الأمن باعتباره من وثائق المجلس برقم س - 1-2231 وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

كانت هناك أيضاً مقابلة تلفزيونية أخرى مع القناة الفرنسية الثالثة في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس 1990م.. أراد المذيعان السيد جيل شنايدر والسيد كريسيان والارا: استدراجي لموقف انفعالي: انهالا خلاله على الرئيس صدام حسين بالتعريض الشخصي وكان صدام قد أصدر قبل أيام قراراً بضم الكويت إلى العراق واعتبارها القضاء العراقي التاسع عشر، قلت لهما: ليس من خلق القادة السعوديين أن يطفوا غضبهم بعبارات نابية وقول جارح، ليس هذا من شيمهم، ولن يكون في موقفي هذا المساء خروج على تلك الشيم، وأرباً بنفسي أن أتناول بما لا يليق رئيس دولة عربية من قناة تلفزيونية غربية أياً كان خلافنا معها.

شاهد هذه المقابلة الملايين من العرب في فرنسا، وفي بلاد المغرب العربي كانت في ساعة من ساعات الذروة في كثرة المشاهدين وهنا أيضاً لم أكد أعود لمنزلي إلا والاتصالات الهاتفية تتوالى، كان أول المتحدثين السيدة علياء الصلح الكاتبة اللبنانية وابنة الزعيم الراحل رياض الصلح رحمها ورحمه الله، والصديق الدكتور بطرس ديب سفير لبنان: كان في تعليقهما على حديثي ثناء على موقف اعتبراه انتصاراً على مرارة الحدث، وترفعاً ورفضاً لمحاولات الاستدراج والصيد في الماء العكر لاسيما وأنا أتحدث من خلال قناة أوروبية وفي بلد أوروبي لديه من المآخذ على العرب الشيء الكثير.

لم أكن في هاتين المقابلتين إلاً معبراً عن أخلاقيات شعب توارث القيم الزكية جيلاً بعد أجيال، وعن سياسة دولة ظلت على ثباتها في مواقف التعقل والحكمة، والحرص على أن تكون في سلام مع الجميع).

وعندما عينت وزيراً للإعلام في شهر مارس 1963م كان أول توجيه صدر لي من الأمير

(الملك) فيصل بن عبدالعزيز اعداد بيان يعلن عن قرار المملكة العربية السعودية إيقاف الرد على حملات إعلام الرئس الراحل جمال عبدالناصر على المملكة).

وبعد:

فإن مما لا ريب أن ما يتمتع به صديقنا العزيز معالي الأستاذ جميل الحجيلان من إدراك عميق، ونظرة واعية، وحس إنساني رفيع: مما منحه هذا الثبات الذي وهبه الله أمام الاستفزازات والمواقف الحرجة، ولكنه كان رائعاً وهو يجيب إجابة الواثق من نفسه، المدرك لمكانة بلاده، فلم يستطع أحد أن يستثيره بأسئلة تنطوي على جنوح وانفعال، وإنما كانت إجاباته تتسم بالعقلانية، ورجاحة العقل، واستنارة البصيرة، وبالهدوء والروية، ومع أنها أسئلة استفزازية إلا أنه كان الرائع في إجاباته، الثابت في ردوه، فلم يندفع للمساس بكرامة رئيس عربي مهما كانت أخطاؤه لاسيما في بلد غير عربي، وبمثل ذلك رفع مكانة وطنه وأمته بأجوبته الهادئة العميقة المسكتة.

وهو ينطلق في مواقفه هذه من نظرته الرشيدة: أن العربي شقيق العربي مهما جرى بينهما من خلاف، ومن قبل قال الشاعر العربي يصف الأمة العربية في خلافاتها.

إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

وهكذا يختلف العرب ويختصمون، ثم يعودون فيتعانقون، وينسون الإساءة، ويخلفون الماضي وراء ظهورهم، وبهذا المظهر الواقعي: تلتقي كلمتهم، وتتوحد آراؤهم، وينسجم جمعهم ويقوم كيانهم: حقاً لقد كنت يا أبا عماد مؤهلاً لمواجهة المواقف المحرجة، والأسئلة الصعبة، ولقد مثلت بلادك وأمتك على أرفع مستوى وأفضل تمثيل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة