حين نشرت جريدة الجزيرة في يوم الخميس 23 من ذي الحجة 1430 الموافق 10 ديسمبر 2009م مقالي (أبو عماد - معين من الخبرة.. وكنز من التجربة) والذي أردت أن أشارك به في الملف الخاص الشامل الذي تصدره جريدة الجزيرة عن (معالي الأستاذ جميل الحجيلان) لم أكن أتوقع هذا التجاوب الكبير من قراء عارفين فضل أبي عماد؛ فالكل يثني عليه صادقاً، ويؤيد ما جاء عنه في مقالي هذا الذي نشر، ولكن لا غرابة في ذلك فهو بحق كما قلت (معين من الخبرة، وكنز من التجربة).
ولقد هاتفني معاليه بعد نشر المقال معرباً بصدق لا يخامره شك أو مجاملة عن أني قد أخجلته بما وصفته به قائلاً: ما هذا الذي صنعته بي يا أبا أحمد؟ وكان جوابي: يا أبا عماد: أنت لست في حاجة إلى من ينافقك، فقدرك عندي أكبر كثيراً مما ذكرته في هذا المقال، بل إنما هي الحقيقة كما أراها -بل بعضها هو ما ذكرته، وإن الصدق في القول -والحقيقة في الوصف هو ما أدعو إليه دائماً، وأشيد به قيمة من قيمنا التي يجب أن تسود حياتنا وألا تذبل يوماً.
وبمناسبة الحديث عن أبي عماد فإنه من الوفاء الذي يجب أن نتحلى به حقاً هو العرفان لأهل الفضل بفضلهم، والسبق بسبقهم.. وأبو عماد علم برز في جيله، وحظي بما يستحق من عالي المكانة، وسامي التقدير؛ لتميزه بالوطنية الصادقة، والمعرفة العميقة بكل ما هو حولنا من قضايا، وكان ولا يزال أحد أبرز الوجوه المشرقة التي تشرف بلادنا بظهورها في شتى المواكب والمناسبات.. كما هم يشْرُفون بوطنهم، وانتمائهم إلى بلادهم المملكة العربية السعودية.
وبهذه المناسبة -لا أنسى لقائي به أول مرة مع صديقي الدكتور/ راشد المبارك منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً في باريس -وكان معاليه سفيراً لمملكتنا في هذه البلاد. وكنا بصدد الترتيب لإقامة مؤتمر شعبي تشترك فيه أعلام الطوائف والمذاهب الإسلامية كافة- ومعهم المثقفون وأولو الرأي من المسلمين أياً كان موطنهم، وذلك للدعوة إلى إيقاف القتال الدائر آنذاك بين الدولتين المسلمتين الجارتين: إيران والعراق، وكيف أن معاليه كشف لنا الحجاب عن حقائق سياسية، ومواقف دبلوماسية، وتداخلات دولية، ووقائع تاريخية وراء ذلك الصراع؛ وذلك رغبة منه في أن يكون ذلك المؤتمر مزودا بالمعارف التي تتصل بما يعقد من أجله. كما كشف لنا الكثير مما تتميز به الدبلوماسية السعودية في هذا الموقف وغيره من المواقف؛ مما أكد لنا أمرين:
أولهما: رسوخ الكيان السعودي، وبعده عن الهزات السياسية، أو تأثره بالمواقف المناهضة، والجهود الدائمة لقادة بلادنا في رأب الصدع، ولم الصف، دون ضجيج إعلامي، أو بهرجة دعائية.
وثانيهما: هذه الإحاطة الشاملة بأحداث التاريخ، ومجريات الواقع المعاش عند أبي عماد.
إن أبا عماد من جيل ندر تكرار رجالاته بقيمهم وثقافاتهم، وعشقهم للعلم والمعرفة، ومتابعة مجريات الأمور من حولنا؛ حتى كان حقاً معيناً من الخبرة وكنزاً من التجربة.
وفي مرات لقاءاتي المتكررة بمعاليه أزداد قناعة بثري مخزونه الفكري، ووافر ولائه الوطني، وحين يدور النقاش عن أمر تجده وكأنه خزانة واسعة فتحت، تتدفق منها الأفكار والأحداث التي عايشها، مقرونة بالأدلة التي رآها، وخاصة في عالم السياسة والعلاقات الدولية، والتي يدعمها بما يتصل بها من أحداث التاريخ، وكم من مرة تحدث لنا عن أحاديث سمعها، ومواقف عايشها لملوكنا (الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله)، وكلها تؤكد ثقتهم به، وعمق معرفة بقدراته، وقد أراد الله له أن يكون على مقربة من كثير من أبرز الأحداث الهامة التي عايشها، وله دور فيها.
ومع كل هذه الثقة الكبرى من ولاة أمرنا جميعاً فيه، ومكانته المرموقة بين كل من عرفوه قلَّ أن تجد من هو في مثل عمره -أطاله الله- وقد جمع بين العديد من المناقب والتجارب.
إن أول ما يطالعك منه هو هذا التواضع الجم، الذي يوحي للجميع بأنه أخ حقيقي.. تواضع في الحديث معك.. تواضع في الحديث عن نفسه.. مع أنه مجموعة كنوز من العلم، والمعرفة، والثقافات العربية والأجنبية.
وإن مما يلفت نظرك إليه بحق هو هذا الفكر الذكي اللمَّاح، وتلك الذاكرة الواعية الحافلة بالقديم والعجيب من المواقف والذكريات، حتى إنه ليكتب بوضوح واستيفاء عن أمر مضت عليه عشرات السنوات وكأنه عايشه بالأمس.. ذاكرة حية لم تزدها السنون إلا صقلاً وتألقاً، ولم تعطها الأعوام إلا بعداً، وعمقاً، ورسوخاً.
حقاً.. ما أنبل خُلق هذا الرجل، الوفي، الفذ، الذي اعتز بصداقته، صاحب المروءة، والسباق دائماً بالفضل؛ فمع علو مكانته، هو الذي يبادرني بالدعوة إلى منزله العامر في معظم الأحوال، أو يهاتفني للسؤال والتحية، أو التعليق على شأن من شؤون حياتنا العامة، حتى وهو خارج المملكة -لا يقصر أبداً في الاتصال. أما عن ثقافته وتمكنه من استيعاب ما في كتب التاريخ السياسي، والاجتماعي، والثقافي من معرفة، ونقده الفاهم لها، مما يؤكد أنه ذو إدراك بعيد وذكاء ألمعي، وذات مرة استعرضنا كتاباً تاريخياً لأحد المشهورين المعاصرين من رجال الإعلام -ذكر في كتابه حدثاً بل أحداثاً معاصرة- الواقع البديهي يرفضها- وكلنا في مجلسه العامر آنذاك أنكرنا هذا بالطبع؛ لأنه أمر لا يقبله حتى الرجل العامي. بل إن واحداً مما شاركونا هذه الضيافة نقل عن أحد المسؤولين إنكاره التام لواقعة ذكرها هذا المؤلف، إذ كان من بين الموجودين في موقع وزمان هذه القصة المختلقة. وهذا يؤكد حقاً أن أستاذنا الحجيلان لماح سريع الخاطرة لما قد يجيء من شطحات بعض الكتاب، وتجاوزهم الحقيقة أحياناً، وبذلك أصبحنا نتساءل عن مصداقية كل ما يرد عن هذا المؤلف السياسي، وإن كنا قد اتفقنا على مقدرته الكتابية والإعلامية.
وساعد على تعدد الموارد والمناهل لثقافة أبي عماد تمكنه من اللغات الأجنبية التي أجادها بعد تميزه في اللغة العربية، فجمع بذلك بين لغتنا اللغة الأم العظمى، وأتقنها، وامتلك زمامها، وبعدها أجاد لغات أخرى، فنهل من ثقافاتها مما أثرى موارد عطائه، فعظمت واتسعت بذلك أفكاره، وعمقت وبعدت رؤاه، وتنوعت مصادر كتاباته، وفيه يتحقق ما أقوله دائماً (كلما تمكن الفرد من لغته الأم تمكن من اللغة الثانية)، وهو متمكن من الثانية بل والثالثة، وقد عرفت أخيراً - من خلال حديثنا مع صديق له في سوريا أنه يعرف لغة رابعة.
وكما أشرت في المقال الذي نشر في صحيفة الجزيرة -والمشار إليه سابقاً- فإن ما يكتبه أبوعماد عن أحداث عايشها، ومواقف شارك فيها يتميز بانسيابية الأفكار، ودقة تحليل عناصر الأحداث، وتفصيل دقائقها -كما يفعل الفلاسفة حين يسبرون أغوار العقل، ويعرفون بُعد ما وراء الأفكار، وبهذا يصير ما يقدمونه حاذقاً، ويبقى مدى الدهر فكراً صادقاً وجاداً، ويستشهد الناس به توثيقاً لقولهم.
ومن الأمثلة على ذلك مقاله بعنوان: (خواطر من عاصمة السلاطين) متحدثاً عن زيارة رئيس جمهورية تركيا السيد جودت سوناي لبلادنا في يناير 1968م، وفي هذا المقال يكشف التحول الكبير في السياسة التركية؛ حيث كان في ذلك العام الذي تمت فيه الزيارة يصعب على المسؤول التركي أن يجهر بتمسكه بدينه الإسلامي وممارسته لشعائره، وأما في الوقت الحاضر فقد تبدلت الأمور إلى قريب مما يتمناه المسلم الصادق.
ومن ذلك أيضاً ما كتبه بعنوان: (من بلغراد إلى الكويت) ففي هذا المقال ما يشير إلى حقائق تاريخية بالغة الأهمية، لا يعرفها -على حد ظني- إلا هو، ومنها: هذا الموقف الأخوي الحميم للمملكة تجاه الكويت الشقيقة -ومن ذلك المقال نعلم يقيناً أن مملكتنا هي أول من بعث سفيرها للكويت إثر استقلالها.. ما سبقتنا دولة أخرى في ذلك؛ توكيداً على أننا الأقرب والأوثق صلة.
ومما جاء في ذلك المقال -أيضاً- ذكره قرار المملكة الحازم المؤازر للدولة الشقيقة إثر تهديدات عبدالكريم قاسم الرئيس العراقي في ذلك الوقت للكويت بعد أيام من إعلان استقلالها، والفضل -بعدالله- يعود لموقف المملكة القاضي بحشد القوات العربية في الكويت تحسباً لوقوع أي اعتداء عراقي، وردعه في حينه، وبمقال أستاذنا الحجيلان هذا تتذكر الأجيال المعاصرة أن وقفة المملكة مع الكويت، إثر الغزو الصدامي - لم يكن هو الأول - إنما هو امتداد ثابت لمواقفنا معها في كل حين. ما أصدق التاريخ حين يرويه من عايشه ووعاه مثل أبي عماد مع قدرات باهرة في التحليل والاستنتاج.
من هو في مثل خبرة أستاذنا الحجيلان - وها هو مقاله - (لم نكن يوماً أشراراً) يفصح عما تتميز به سياسة بلادنا من عدم الانفعال، واللجاج والخصام، أو الرد بالأسلوب غير الحميد على من يدفعه شيطانه إلى القول النابي، أو التشهير المرذول.
وإني على يقين من أن ذلك الصحفي الفرنسي الذي أجرى المقابلة مع أبي عماد صباح يوم 24 يناير 1991م فوجئ بجواب هذا الدبلوماسي العريق - أبو عماد - والذي يتوقع منه أن يكون جذلاً ومسروراً عندما دمر طيار سعودي طائرتين عراقيتين كانتا تحاولان الإغارة على مدينة الخبر السعودية - إذ يقول أبو عماد - إني استيقظت على سماع هذا الخبر حزيناً مهموماً - ولم أكن سعيدا لأن طائرات عربية تغير على بلد عربي ويتحارب عربي مع عربي.. هذا ما لا نريده - وإن كنا حملنا عليه حملاً.
ويصف الحجيلان الإنسان السعودي من جيله بأنه هادئ بطبعه - يكره الصخب، قليل الكلام - معتدل النظرة، متسامح في مواقفه مع الآخرين.
وتعليقي على هذا: هذا من صفات جيلك - يا أبا عماد - أما جيل اليوم فلم يعد بهذا الهدوء - لأن اشتداد الصراع، وصخب الحياة من حوله جعل بعضهم يتخلى عن هذا الهدوء الذي كان شيمة للأجيال السابقة.
لقد تنقل أبو عماد - يحفظه الله - في عدة مناصب قيادية، وزيراً لأكثر من وزارة، وسفيراً في أكثر من دولة كبرى وفي كل موقع من هذه المناصب كان له تميز ومبادرات جعلته المبادر دائماً، والأول في الأخذ بكل جديد غير مسبوق في ذلك، وحتى انتهى به الأمر إلى أن يختار أميناً عاماً لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، فاستطاع بحنكته وموضوعية أفكاره، وصدق حدسه، وإخلاصه، ووطنيته وتجرده أن يحقق للمجلس الكثير من الإنجازات الكبيرة المؤثرة.
ولقد عرفت ذلك حينما حظيت بعضوية الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، فرأيت من كم إنجازاته ما أبهرني، بل إني حين شرفت برئاسة فريق من الهيئة لتقويم مسيرة المجلس منذ قيامه وجدت تميزاً واضحاً لما تحقق من أعمال في سنيّ توليه الأمانة العامة، وجهده، وصادق عزمه، وموضوعيته، وعدم مجاملاته في الحق، وراء هذا الكثير الذي حققه للمجلس، بما في ذلك إصراره على اختيار أهل الكفاءات العاملة معه.
ولأنه جميل كاسمه في علاقاته الطيبة مع جميع من عرفوه في حياته، ووظائفه، ولقاءاته.. لهذا كله كثر محبوه وأصدقاؤه، ليس من المثقفين العرب وحدهم، بل من رواد الثقافة والسياسة في دول كثيرة أخرى، حتى إنه صار مقصداً لكثير من رجال الفكر والإعلام من الدول العربية والأجنبية، يفدون إلى منزله العامر أو مكتبه المفتوح للحديث، واللقاء، أو التشاور وأخذ الرأي في أمور..
يزدحم الناس على بابه
والمورد العذب كثير الزحام
وحين أقرأ ما يكتبه صديقي أبو عماد بين فينة وأخرى بالأسلوب الأدبي الراقي أتذكر قصة أصحاب المعلقات في العصر الجاهلي، وكيف كانوا يدققون في كل ما يكتبون، وإن قل ما يقولون: لأنهم كما كان زهير صاحب الحوليات يقضي حولاً كاملاً في تنقيح القصيدة الواحدة.. هكذا الحجيلان عمق فكر، وواسع تجربة، وتعدد خبرة في روعة أسلوب، وبلاغة تعبير، وليته يستجيب لمطلب أحبابه.. وأنا أحدهم بأن يسارع الخطى في إصدار ما وعدنا به من كتابة سيرته الثرية العطرة.. ليكون نبراساً للتجارب التي نحن في أمس الحاجة إليها.
***
والدعاء الدائم: أمد الله في عمرك.. يا أبا عماد، وزادك عافية، وعطاء أيها الوطني الغيور المخلص.