Culture Magazine Thursday  14/03/2013 G Issue 400
مراجعات
الخميس 2 ,جمادى الاولى 1434   العدد  400
 
استراحة داخل صومعة الفكر
رحلة البدءِ والمنتهى (3)
سعد البواردي

 

د/ عبدالعزيز محيي الدين خوجة

621 صفحة من القطع المتوسط

يأخذنا شاعرنا الوجداني معه وقد اصطحبنا سوياً قطار الحب، فمن محطة إلى محطة، ومن شرفة إلى أخرى يستشرف من خلالها عبر خياله الشعري صوراً للجنس الناعم، ترسمها ريشته.. فمن «سلمى» إلى «ليلى»، ومن «هيفاء» إلى «أسماء»، لا تعنيه الأسماء بقدر ما يعنيه الجمال الناعم النائم منه والمستيقظ.. يلامسه بحسه، ويرسمه بريشته كما يشهدها شاهداً لها أو عليها.. حين تتحدث:

تقول بأنني وحدي

وتعطي موثق الوعد

وفي العين أشجان

تحلق بي إلى الوعد

تفجر نار مخبوئي

بشلال من الوقد

أكاد أذوب من ولهي

ومن شكي ومن سهدي

وحيث يتحدث:

وحين أعود ألقاها

أداري الجرح والآها

ففي أعطافها سكني

ومثوى القلب مثواها

قصة آدم وحواء في صراع لا ينتهي بين الممكن وغير الممكن، يبوحان به، ولكن إلى حين.. بنهاية وبدون نهاية!

شاعرنا اعترف بحبه للجمال إلى درجة الجنون كما هو حال «قيس» و»ليلى» و»كثير عزة».

ألام على الحب ظلماً ألام

وهذي الحياة عليه تقام

يقولون إني أسير الخيال

وإني ضعيف أمام الغرام

وأنا أعدت حياة «جميل»

وعهد الدموع وليل الغرام

ويجمعها بهذا البيت:

فإني «جميل» وإني «كثيِّر»

إني «قيس» أسير الهيام

أصدقك شعراً.. هذا ديوانك الشاهد عليك.

«رحلة المنتهى» جاءت مستعجلة في مكانها، ليتها كعنوان جاء ختاماً للديوان، أجتزئ منها بعض أبياته:

أسمعتِ صوت الحب يهتف: إننا

في الكون أغنيتان ترتحلان من آه، وآه

وصدى هوانا في رواه

يضيء من وهج سماه

ضمي إلى أفيائك العليا ذراه

لعلها تخضر من قرب ذراه

إني وهبت جناحه وحنانه وجنونه

وجميع ما تتلو الشفاه

لم تدع شيئاً إلا قلته فيما سبق، وفيما سوف يلحق إلى درجة الكرم الزائد.

شبَّه طيف خياله بالشرود والذهول والضياع والزفير الذي اشتكت منه الرياح، إلى درجة الضيق والتبرم وعدم العودة؛ كي لا يلدغ من جحر مرتين، وما أكثر ما عضه الترحال وهو يطارد خيال شعره:

لا تقل عُد لي، فإني لن أعود

لا تقل أهواك.. هل صنت العهود؟

يا حبيباً كنت بالأمس حبيباً

يستبيح القلب، فاخترت الشرود

ضاع أمسي من وجودي وانتهينا

يا حبيبا قد تمادى في الجحود

لكل حب جاحد أو جامد نهاية..

بعضاً من قصائده الثرة والكثيرة أتجاوزها في حب، وقد حكاها مضموناً في قصائد أخرى متشابهة.. وأتوقف أمام مشهد الهرب اللذيذ الذي لا يفرق..

وأهرب منك ولكن إليك

فنصف يَهبُّ ويبحث عنك

ونصف بصدري كواه الحنين

وأبصر منه الذي لا أراه

واعرف أن هواه مبين

أبيات رائعة في توصيفها وتوظيفها للمفردات.. نصف هروب ونصف تواجد.. كلاهما في الصورة لغة تكامل..

للبوح عذاب، هذا ما باح به شاعر الحب.. وللحب أيضاً في وجهه الآخر عذوبة:

أداري لوعتي عن ناظريها

فتفشي مقلتي السر الدفينا

يكاد الدمع أن يجري بخدي

وتمنعه الرجولة أن يُبينا

كأن الدمع ينبوع بقلبي

إذا ما فار لم يصل العيونا

إن كبرياء من طُعن في قلبه وعزَّ عليه كبرياؤه مظهر الضعف أن يستبين.. اختار لدموعه أن تظل حبيسة في داخل مآقيه كي لا يشمت به أحد.. ولكن لمرة أو مرتين لا يقوى على كبت مشاعره بالمطلق لو حاول..

إنه أمام حلم فراشته، لا يقدر على حبس دموعه.. ولا أن يمسحها بنفسه:

نامي على حلم الفراشة في وجيبي واسكنيني

كفكفي دمع البراءة من عيوني

هدهدي خوف الطهارة في دروبي.. عربدي

فضي بكارة ما تراكم من سنيني

وانثريني شعلة عبر المدى

انقاد إلى قلبها بقياد ضعف واستسلام دون مقاومة.. هكذا الشعراء ينهزمون ويُهزمون..

تُسائله فتاة أحلامه هل اعتراه الملل؟!

أمللتَ من صخبي ومن عنف الشباب؟

وتركتَ أحلامي تعربد في سراب؟

ونسيتَ أني لا أجيد سباحة

ولقيتني حيرانة وسط العباب

خذني إليك غريقة منهوكة

أنتَ الملاذ فقد مللت من الغياب

جاء دورها هذه.. تناشده بكل ما تملك من ضراعة الأخذ بيدها.. انتشالها كرجل إنقاذ من الغرق.. ويبدون أنه لم يسمع.. أو سمع ولم يستجب:

يا أيها الآتي إلينا دهشة

أتغيب عنا فجأة مثل الشهاب؟!

كما القلب الحنون يقرب الأبعاد فإن للحب جنوناً لا يحد:

ألف سور. كلما جاوزت سوراً لاح سور

قام سور. ألف بحر..

كلما صارعت موجاً جرني للشط مد. ألف قيد

كلما حطمت قيداً جاء سجان، وقيد

ومضى العمر سراباً بين آمال تُوارى أو ترد

كلما هيأت جسراً زال جسر. هزني شوق وود

كلما أطفأت ناراً ثار في الأضلع إعصار ورعد

كلما فارقت سهدا جدَّ وجدٌ. سكن العينين سهد

عزيزي عبدالعزيز خوجة.. الحياة حب الصراع.. وحب الحياة صراع.. لا دخل للاختيار.. الاختيار سلاح معركة تكشف مدى قدرة المصارع على الحلبة.. قد يهزم منافسه.. وقد يقضي هو بالضربة القاضية.. ومعركة الحب أشبه بمنازلة، من صمد فيها أكثر كسب الجولة حتى لو أجهد.. دع لحسنائك الاختيار بين حب لا كدمات فيه.. أو إلغاء الملاكمة.. كما هي خطوتك التالية مع من تهوى:

شيء ما أقوى من كل الأشياء

ألقى بي حول مدارك. ففقدت مقاومتي

وفقدت محاولتي كي أنفك بعيداً عن إغراء مسارك

حسناً اخترتَ. المغامرة مجهولة.. وحسناً هربتَ لنفسك من نفسك وقد كبحت أشواقك المتمردة بعيداً عن حيرة.. إن تهوى.. أو لا تهوى.. قرار حكيم يحسب لك لا عليك.

من استدل ما تاه ولا ضل.. شاعرنا قال لها:

دليني من يحجب ضوء الشمس؟

فشرابي من كأسكِ مقسوم

وحباب اللوعة في الكأس

أفديك اليوم وما يأتي

يا أروع أحلام الأمس

من يدري.. قد تتحول أحلام الأمس إلى آلام اليوم.. الحب في دنيانا متغير لا أمان له..

في لج بحر وحدانيات شارعنا القدير تبحر معه بعد أن ودعنا قطار الحب بكل محطاته وشرفاته ومشاهده، تبحر معه عبر حافلة جديدة وطويلة المدى.. الإبحار فيها أيضاً مليء بالأسئلة والغياب والعتاب والعذاب والسراب والعباب. وأخرى.. بداية بسؤاله:

وتفوتني من السحاب والإياب

دهراً من الشكوى إلى حلم سراب

ويكاد يصرعني الردى حتى تطل على المدى

غيثاً همى يأبى العتاب. يحيى التراب

بشرى خير.. نزل المطر فأروى النفوس العطاش بعد طول ظمأ.. طول انتظار.

تحرر من قيد هواه رغم المعوقات والتدخلات بعد أن رسموا للحب قانوناً جديداً وفق هواهم..

ويلهم.. قيدوني كبلوني بالشجون

عذبوني بالظنون.. شتتوا شمل وجودي

حولوا حبه إلى مأساة.. حرفوه، وصفوه بالباطل.. قتلوه واتهموه بالقتل.. إنهم الأدعياء.. رغم هذا كله قاوم:

ما دروا يا حبيبي أنني رغم القيود

ما دروا أني طليق.. ما دروا أن الهوى أيضاً طليق

وأيضاً منزه من الشبهات.. أيضاً انتصار جديد في معركة الحب..

شاعرنا بحسه المرهف لن يعاتب.. إنها سماحة الوجدان الذي لا يتملكه الغضب في موقف حب يتحدث عن نفسه متسائلاً:

أأقول عاتب؟ أأقول غاضب؟!

لا.. لن أقول ولن أعاتب حتى وإن غدر الهوى

حتى وإن رحلت من الميناء أحلام المراكب

حتى وإن غاب القمر والشمس غابت والكواكب

حسم أمره أن لا يعتب ناهيك عن الغضب.. أُذكِّر فارسنا بمقولة شارعنا عن العتب:

«ويبقى الود ما بقي العتاب»..

العتاب ليس عيباً.. إنه التذكير المؤدب بالاحتجاج الرقيق الذي تقتضيه الضرورة إذا كان لا بد منها.

ماذا أراد القدر في حسبانه وفي حسابه وقد مضى قطار العمر نحو محطاته المتقدمة؟

ويمضي بنا العمر يا قلب حزناً وقلنا أراد القدر

ويمضي بنا العمر يا قلب جدباً فلا العشب ينمو

ولا الزرع يرجو هطول المطر

كأن السماء جفاها السحاب

وجف عن الأرض ماء البحر

ماء البحر لا يروي جفافاً لملوحته.. وحسناً إبدال البحر بالنهر العذب.. تأملات لمن خط الشيب رأسه وهو يتذكر شبابه الذي ودع في حسرة، وتذكر دون عودة

«ألا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيب»

لا عطش ولا رواء.. وإنما بين بين:

لا شيء لديَّ، ولا شيء، أو في الجبة شيء

أو تحت القبة شيء.

تقلقني الشمس ويحرقني الفيء!

إني درويش متقاعد. انقطع الشارد. والوارد

إني ماض عنكم متباعد. لست شهيداً أو شاهد

نفس الظلال التي مدت خطوطها.. ثم اهتزت على وقع الريح الزمني تنتظر اللحظة الغائبة والفاتحة المجهولة.. الواحد منا رهين هواجسه ووسادته بعد أن تقطعت به السبل أو كادت.. وراح يتمتم:

قل لي هل سُلبت مني الأشياء؟

أم أني في لحظة فناء..

لا جواب نملكه على السؤال.

* * *

تنويه

تعتذر الثقافية عن ورود عدد من الأخطاء التصحيفية في أبيات الديوان الذي يدرسه الأستاذ البواردي فله وللدكتور الشاعر عبدالعزيز خوجة العتبى.

- الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5621 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة