Culture Magazine Thursday  14/03/2013 G Issue 400
فضاءات
الخميس 2 ,جمادى الاولى 1434   العدد  400
 
من ذاكرة القصة السعودية:
محمد عالم الأفغاني (2)
د.صالح زياد

 

تحتل ثيمات القصص المتعلقة بالفقراء، من جهة فقرهم تحديداً، مساحة غالبة على القصة السعودية في الفترة التي عاصرها محمد عالم الأفغاني، وهي مع صفة الشباب مساحة بارزة فيها وفي قصص الأفغاني. وإذا استثنينا الأفغاني فإن هاتين الصفتين: الفقر والشباب في الشخصية القصصية، يضافان إلى صفة الأنوثة، للهيمنة على مساحة القصص عند غيره (كما سنرى في كتاب المنهل الذي يصدر إن شاء الله قريباً).

إن سعيداً في قصة الأفغاني المعنونة «عودة سعيد» شاب فقير يعمل في مركز تجاري كبير، ويعاني من الفقر والتفاف الدائنين عليه وينفق على أمِّه الضريرة. تخطر له فكرة أن يأخذ من مال المتجر المؤتمن عليه ليسدد دينه، فتضطرب به الفكرة ويدخل في حمّى وهذيان ولا يستطيع الذهاب إلى العمل في اليوم التالي، ويأتي صاحب المتجر لزيارته فيعتقد أنه أتى ليقبض عليه بجريمة السرقة، وتنتهي القصة به إلى الموت. والقصة تمثِّل بذلك على مبلغ الأمانة وحيوية الضمير عند هذا الشاب الفقير، وهو تمثيل اختارت له القصة هذا العنف الارتدادي من الانفعال الذي أفضى بالشاب إلى الهذيان والحمَّى والغيبوبة، وفي النهاية: الموت.

وكأن القصة بذلك تمارس عقاباً فضًّا على الشخصية لأنها فرَّطت في شرفها الأخلاقي. وقد يقال إن هذه صنعة ثقافية تزيِّن للفقراء المسكنة والضعف والانقياد وتسميها أخلاقاً فاضلة وشرفاً وما إلى ذلك، وتصوِّر الفقراء بهذه الصورة الوديعة المستسلمة، وتعتِّم على الافتراس والصراع الذي يشكِّل -في هذا المنظور- جوهر الواقع، وذلك لأن المُثْرِين الذين يمكِّنون بحكم قوتهم الاجتماعية وجهة تفيد من مثل هذه الأخلاق التي ينمو على لحمها ودمها مزيد من شجع التجار وتوحشهم. لكننا نغفل عما تتضمنه هذه الرومانسية الأخلاقية من إدانة لأصحاب المال والنفوذ ومن تشنيع على توحُّشهم.

هذا الإنماء إلى الفقراء، أو النسبة إليهم، يجعل القصص مبنية على التعارض مع أهل الثراء، ومدلِّلة بما لا سبيل إلى معناه دون وجود مقابِلِه منهم. ومن شأن ذلك أن ينتج دلالة القصة بالمعنى المضاد للمثرين، ولا تكاد تنفك هذه الضدية عن النقد والتجريم والتهوين والنقمة والاتهام لهم. وهي أفعال ضمنية في القصص وليست صريحة، وكنائية وليست مباشرة، ولذلك تغدو دلالة المبالغة في التضحية والبذل ونسيان الذات، والإنسانية، وحيوية الضمير لدى شخصيات معدمة وشديدة الإملاق في بعض القصص معلولاً لتلك الضدية المحتشدة بالنقمة والنقد والتشنيع على الأغنياء، ومؤدَّى لدلالتها.

وقد نرى موقفاً مثالياً في بعض القصص يحيل على أصلية الخير في الوجود البشري وكونية العدالة الإلهية. وهذه المثالية هي ما يطبع في هذه القصص ثيماتها التي تقوم الشخصية فيها بتمثيل الشاب، مثلما تطبع الثيمات المتعلقة بالفقير أو المرأة. وتبدو حيوية الضمير الذي يمضّه اقتراف صاحبه الأذى في حق غيره مداراً لمثالية إبراهيم في قصة «الكأس الأثرية» للأفغاني فالكأس الأثرية هنا هي التي خَدَع بها الشابُ إبراهيم عمَّه المفتون بالأثريات، فباعها عليه عن طريق سمسار. وشعر إبراهيم بعد ذلك بالذنب وتأنيب الضمير ثم لم يلبث عمه أن مات من دون أن يجرؤ على طلب غفرانه له. ومنذ ذلك الوقت وجد إبراهيم أن تلك الكأس تطارده، وكانت دعوته لصديقه بالحضور إليه عاجلاً، ذروة أحداث القصة. فهو يسأله: هل تظن أنها لن تعود إلى حياتي؟! لقد دفنتها بالأمس في هذه الحديقة فوجدتها صباح اليوم على المنضدة تطالعني في خبث ودهاء. ثم يدعو صديقه إلى أن يقوم بدفنها.

إنها معاناة مريرة وعجائبية في الوقت نفسه تنشئها القصة للدلالة على مبلغ الشفافية وحيوية الضمير لدى هذا الشاب. ويتضافر الفقر مع الشباب في شخصية عبدالرحيم الجاوي، في قصة الأفغاني «أحلام». فهو شاب جاء إلى البلاد المقدسة للتفقُّه في الدين وكان يعيش على ما يرسله إليه أهله، وفي الحرب العالمية الثانية انقطعت صلته بهم، فعاش فقيراً. رأى وهو نائم على سجادته أن منادياً يقول له: سأعطيك هذه الجنيهات كل يوم بشرط أن تنفقها كلها قبل أن يأتي المساء، وأبدى بابتهاج صارخ موافقته. ثم ذهب ليشتري قفلاً لباب حجرته، وبعد ذلك أخذ يعدِّدها، ومضى الوقت... وحين فتح النافذة كانت الشمس توشك على الغروب، فنادى العم عبد الرحمن لينفقها عليه، وحين رآها قال له: هذا حرام، وامتنع عن قبولها! فأذَّن المغرب وعندئذ التفت عبدالرحيم إلى الصفيحة فوجدها فارغة، واستيقظ من نومه. إن اجتماع الفقر مع الشباب في هذه الشخصية يجعل ثيمة القصة متعلقة بما تخصصه بهما من صفة، فمؤدَّى القصة أنه لا حياة بلا مغالبة، ولا امتلاك لشيء بلا شروط، وهذه الحقيقة التي تتأدَّى إليها القصة، لا تعني شيئاً لشائخ أو ثري، إنها تجربة رؤيوية ينفذ إليها حدس الشاب الفقير وتنبني على معاناته وأحلامه.

وقد تأخذ القصة مادتها من التاريخ لإبراز الوجه غير الإنساني حين يمتلك المرء السلطة والنفوذ المطلقين، كما في قصة «جبَّار بني العباس» للأفغاني التي تنبني على المفارقة والمفاجأة بحدوث ما تم تغذية اطمئنان القارئ إلى عدم حدوثه. وفيها يؤتى بخالد بن ذؤابة مكبَّلاً بالحديد إلى هارون الرشيد، بعد أن خرج عليه للمرة الرابعة. فلما رآه هارون وقف له وبدل أن يأمر بقتله عاتبه قليلاً ثم أمر قَهْرَمَانَه بإعطائه مئة ألف ألف درهم وكتابة مرسوم بتوليته على خراسان، وأكد عفوه عنه، فانصرف الحاضرون ومشى خالد إلى باب القصر فأشار هارون إلى أحد حراس القصر فضربه بسيفه وتدحرج رأسه على الأرض كالكرة. فهذه وأمثالها من القصص التاريخية، على الرغم، من جريان أحداثها في محيط زماني ومكاني قديم، فإنها تنطوي على مرويِّها من الوجهة التي تؤكد القيم والمعاني التي تصلها بغيرها من القصص، خصوصاً في انبناء المحيط القصصي فيها على العلاقة مع نمط الشخصيات الشائع فيها: الفقير/ الشاب.

وسواء كان المكان معيَّناً بعلميته الاسمية أم بتضمن القصة ما يدل عليه، فإننا نستطيع أن نميز ثلاث صفات للفضاء الذي تجري فيه القصص، من حيث غلبتها على مجمل القصص، ومن حيث التأثير بفضاء القصص عبرها على الشخصيات والأحداث والتدليل باختيارها دون غيرها من صفات المكان على ثيمة القصة وعلى ما تجسده من تجربة بشرية. إن فضاء أكثر القصص مخصوص باتصافه بالتجارة والتقليدية والقداسة، وذلك من دون أن نقصد إلى تفاصلها في الدلالة على المكان أو وصفه، ولا إلى اجتماعها فيه، فهناك قصص يبرز فيها اتصاف المكان بإحدى هذه الصفات دون الأخريين أو أكثر منهما، وقصص تجمع هذه الصفات جميعاً.

فأول صفات المكان وهي التجارة معبِّر عن مجتمع المدن الحجازية الذي تزدهر فيه التجارة ويتصف بأنه مجتمع أعمال متصلة بها. ولهذا أسبابه المتصلة بمركزيتها الدينية ووفود الحُجَّاج والمعتمرين والزوار إليها من أنحاء العالم، وتكوُّن بيوتات تجارية عريقة فيها وطبقة وسطى أو في أعلى درجات الطبقة الوسطى من أهل الثراء تقوم على أعمال الطوافة أو الاستيراد للبضائع وتوزيعها. ويتصل بهذا المجتمع التجاري مجتمع موظفي الحكومة ومدرائها. والذي يهمنا هنا هو رؤية تأثير هذه الصفة في اختيار أبطال القصص من الفقراء والشباب على محور التقابل مع أهل الثراء. ولم تكن أكواخ الفقراء ومنازلهم الرثة في عدد من القصص ذات دلالة إلا على خلفية من دلالة المجتمع التجاري أي مجتمع الثراء والنفوذ. وبوسعنا أن نلمح دلالة هذا المكان في اختيار الشباب لبطولة بعض القصص من موقع العمل لدى أحد التجار أو بعض دوائر الأعمال أو الحكومة أو الحراسة لمبنى... الخ لأن الشخصية الشابة هنا خامة خصيبة للمعاناة والتحولات. وقد نلمح وجه المعاناة التي يخلقها مثل هذا المجتمع التجاري للمرأة، فهي مثل الشاب شخصية بالغة الخصوبة لتوليد معان سردية رومانسية مضادة للمادية والجشع والانهماك في مطاردة المال والتسلط عليها. ولا يختلف عن ذلك ما يمثِّله الفقير من خصوبة سردية في مجتمع التجارة والثراء والنفوذ فهو لا يختص بمعاناة الحرمان والكفاف، ولا بالأحلام والأماني، وإنما يجاوزهما إلى تشكيل حالة ثقافية وأخلاقية مضادة لقيم المجتمع المالي وأوهامه.

أما صفة القداسة فقد تجلت في قيم دينية وروحانية وفي خصائص منبثة في أجواء القصص ونسيجها السردي. فوجود المقدسات الإسلامية كَسَر قوقعة العزلة والانطواء التي كانت صفة لعديد المدن السعودية في أوليات نشأة الدولة. ولهذا برزت في القصص شخصيات حضرت إلى مكة أو المدينة للتعلُّم والتفقُّه في الدين أو للمجاورة والانقطاع للعبادة، وكان بعض هؤلاء الشخصيات في دَوْر البطولة لبعض القصص، كما في الشاب عبدالرحيم الجاوي في قصة «أحلام» التي أشرنا إليها للأفغاني. ومن المؤكد أن لوجود الأماكن المقدسة في مدن مكة المكرمة والمدينة المنورة أثر في اتصال الوعي العلمي والاحتفال بطلب العلم فيها وفي المدن الكبرى القريبة منها مثل جدة والطائف. ولهذا يبدو في القصص وعي يؤشِّر على التعليم وازدهار الثقافة واستيعاب المشكلات وإثارتها بما يليق بعقول تفتحت بوعي القراءة والاطلاع وخَبِرت التراث مثلما خَبِرت النتاج المعرفي والأدبي الذي كان في تلك الآونة يخلع رداء الجمود والتقليد ويتجدد في مصر والعراق والشام.

وكانت النهاية المأساوية متكررة في غير قصة -كما أشرنا أعلاه- فالموت كان هو النهاية الفاجعة في قصص الأفغاني «الفتى الملثَّم» و»المصباح السحري» و»المؤذن الصغير» و»الكأس الأثرية» و»جبَّار بني العباس» و»عودة سعيد» وقد لا يأتي الموت في بعض قصص الأفغاني تاركاً النهاية لفجيعة أنكى من الموت وهي -مثلاً- الجنون في قصته «المجنون».

أما الرافد التراثي الشعبي في القصص فقد ترك أحياناً بصمة عميقة وبالغة الوضوح، وهو رافد يغرف من ينبوع القص العجائبي وحفوله بالسرية والقدرية إضافة إلى فضاءات ودلالات نمطية للقص. فالقص في «ألف ليلة وليلة» -مثلاً- يبث سلطانه السردي في التراث، ويلقي بظل على أنماط في القص وأنماط في الدلالة القصصية في جوانب من القصص التي بين أيدينا. وأول ما نلحظه من ذلك -مثلاً- أن تبدو القصة في قلب قصة إطارية، ففي قصة «شهر زاد» للأفغاني استعار الكاتب أسلوب شهر زاد في «ألف ليلة وليلة» مع الملك لتضمين قصة المجانين الثلاثة الذين خر عليهم البيت فأخذوا يقصون بعضهم على بعض قصصهم أو سيرهم فكانت القصة إطاراً قصصياً يحوي بدوره قصصاً ثلاثاً. والقصة هكذا تتناص -أيضاً- مع حديث نبوي يحكي قصة ثلاثة نفر دخلوا في غار فانطبقت عليهم صخرة، فسدّت الغار. فقال بعضهم لبعض إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. ثم أخذ كل منهم يحكي قصة له تدلل على عمله عملاً فيه دلالة على تقواه لله تعالى، والصخرة تنساح حتى خرجوا. ولكن آخر القصة يخرق النمط الشهرزادي فالملك يطلب من شهر زاد أن تصمت لأنه لا يطيق سماع بقية القصة التي تتضمن شكوك البطل في خيانة أخته لزوجها فـ»سكتت عن الكلام المباح قبل أن يدركها الصباح». وتبدو القصة الإطارية عند الأفغاني -أيضاً- في قصة «الفتى الملثَّم».

لكن جانباً بارزاً من هذا الاسترفاد للتراث يبرز في حفول عديد من القصص بالعجائبي. وقصة الأفغاني «الكأس الأثرية» واحدة من القصص المثيرة بعجائبيتها، فهي قصة بقصة إطارية. إذ يروي راوي القصة «عباس» دعوة بطل القصة «إبراهيم» له وهو صديقه الحميم إلى زيارته عاجلاً، ويبدأ إبراهيم يحكي له عذابه مع هذه الكأس وهي القصة الأساس. وفي قصة المجنون للأفغاني -أيضاً- يدخل بطل القصة، وهو صانع خواتم، في ليلة العيد، إلى غرفته ليرتبها، ويفتح خزانة ذات أدراج ودرجها الأسفل لم يفتح من سنين، فيجد فيه خواتم علاها الصدأ وبينها خاتم لا يشبهها أخضر اللون وحين فركه اختفت غرفته الرثة فإذا هو في غرفة فسيحة وفيها مكتب عليه رجل. سأله: من أنت؟ فأجاب بأنه من الجن، وأنه يحقِّق له رغبته، لكن لكثرة عملائهم فإنه يكتفي بتحقيق أمنية واحدة. وبعد تفكير اختار أن يكون جميلاً، وكان له ذلك. ثم عاد إلى غرفته الرثة. وحين ذهب إلى أمه وأخته المشغولتين بالتجهيز للعيد لم تعرفاه، ونادتا: «حرامي.. حرامي» فضرب برأسيهما في بعضهما لتموتا، وأقبل الناس وكان يرفع في وجوههم يده المصبوغة بالدم.

ويبدو توظيف الحلم وسيلة لابتداع القصة طرائف خيالية مفارقة للمعقولية والواقعية، كما في قصة «أحلام» التي دارت -كما رأينا- على حلم طريف وخارق للواقع. والأحلام مادة سردية عميقة الجذور في التراث، وهي مادة سخية لإطلاق عنان الخيال وتوليد الدهشة والمفارقة والتعبير عما يجاوز إلى الباطن العميق. وبالطبع فإنها في حدود هذه القصة التي رأيناها عند الأفغاني رهينة القصد إلى العظة والتعليم، لكنها إلى ذلك لا تخلو من الدلالة على طاقة خيالية قادرة على الغوص بعيداً لتأدية دلالات أكثر اتساعاً وتعدداً. ومن غير شك لم يكن الافتنان في الخيال السردي خصوصاً على هذا النحو العجائبي والحلمي يجري في القصة السعودية في تلك الآونة بهذه الطاقة التي نراها عند الأفغاني، فقد كان الأفغاني -بحق- طاقة زاخرة بالموهبة السردية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة