ومن هنا ينشأ «صراع الثقافات»؛ لأن المرء يميل فيما يتعلق بما يعتقده حقيقة إلى تعميمها على الآخر ووجوب تصديقها ولو بالقوة.
لكن لماذا يميل صاحب كل حقيقة سواء في مرتبة الفردي أو الجمعي إلى فرضها على الآخر؟
لاشك أن هناك ثمة أسباب تدفعنا إلى هذا الميل الغريب منها؛ أن تعميم حقيقة أو مجموع من الحقائق خاصة بأفراد أو جماعة أو أنظمة على الآخرين تعني امتلاك هؤلاء الأفراد أو الجماعة أو الأنظمة قوة الحق والهيمنة وعظمة الموقف ومفتاح التاريخ، كما أنها تُمكن من امتلاك القدرة على صناعة الحقائق أو تلفيقها.
إن العالم يمتلئ بالحقائق؛ لكن الحقائق الكبرى التي تهيمن على العقلية الإنسانية معروفة يتحكم فيها القوي؛ فمن يملك القوة يصنع الحقيقة.
والحقائق المتوازية لا تحقق قوة الحق والهيمنة ومن هنا «يبدأ صراع الثقافات».
إذا لابد من ثنائية الضعف والقوة لتوفير طاقة ذلك الصراع.
وحتى تتحول الحقائق المفترضة بالتوازي إلى مصدر صراع لا بد أن يدخل طرف من الطرفين دائرة الشك بحيوية القيمة» لتنقسم فرضية التوازي إلى قسمين «ضعيف وقوي»، وبدون ذلك التقسيم لا يمكن «صراع الحقائق».
والحقيقة مجردة من زيّ الثقافة لا تحمل خطرا لأنها «لسان أخرس» ومتى ما أُلبست زيّا أي تحولت إلى اعتبار ثقافي أصبحت كائنا، والكينونة هي التي «تجلب الصراع».
إذن الحقائق لا تتصارع وجها لوجه بل تتصارع القوالب الثقافية التي تحملها.
ولذلك أعتقد أن أصل الصراع بين الثقافات يعود إلى الصراع على الحقيقة.
وإذا تأملنا «مفهوم الحقيقة»، سنجد أن الحقيقة في أصلها هي «وظيفة توثيقية» وبذلك يمكن اعتبارها بأنها «التوثيق الوصفي الموضوعي حاصل التفاعل معرفي».
ولذلك فالحقيقة تُبنى وفق «الاتفاق الجمعي» على «صحة ناتج المدرك المعرفي» و»سلامة التسلسل المنطقي لحاصل مصدر المعرفة».
و»الاتفاق الجمعي» له أنواع، قد يكون الاتفاق الجمعي وفق «الديانة» أو «الفئة» أو»المذهب» وبذلك فضرورة الاتفاق وفق المقياس السابق لا يعني عالمية مضمون الحقيقة، وهو ما يثري تعدد توثيقات الأوصاف الموضوعية لحاصل التفاعل المعرفي، وهذا التعدد بدوره هو أيضا محفز للصراع بين الاتفاقات الجمعية.
كما أن معيار»صحة ناتج المدرك المعرفي» بدوره له أنواع فهناك «المعيار الديني» أو «المعيار العلمي» أو «المعيار التاريخي» أو «معيار العرف».
وبالتالي فإن «سلامة التسلسل المنطقي لحاصل مصدر المعرفة» تتأثر بنوع منطق جماعة الاتفاق ومنطق معيار الحكم على صحة الناتج.
وفي ضوء الاعتراف بدور الحقيقة في نشأة صراع الثقافات، فهذا الاعتراف لا يجعلنا نغفل أن هناك دائرة مشتركة تجتمع فيها الحقائق التي تتصف «باتفاق جمعي كامل»؛مثل الحقائق المرتبطة بأصل قيمة الإنتاج والإيجابية.
لكن لو تأملنا مفاهيم مثل الحضارة والنهضة والحرية والمساواة سنجد أن الحقائق المتحكمة في بنائها تختلف من «اتفاق جمعي» لآخر.
ليس بالضرورة أن يمثل كل مفهوم حقيقة؛ ولذا لا بد أن أتحدث بإيجاز عن علاقة المفهوم بالحقيقة.
إن قدرة تعايش المفهوم مع إستراتيجية حياة الأفراد والجماعة والأنظمة هي التي تنقله إلى مرتبة «الحقيقة»، وبذلك سنلاحظ أن قدرة المفهوم على إنتاج آليات تعيش - «حيويته»- تتوافق مع «مصدر الاتفاق الجمعي» هو الذي يطوره من مرتبة المفهوم إلى مرتبطة حقيقة.
وتعتمد المفاهيم حتى تتحول إلى مراتب الحقائق على ست خصائص هي خاصية القدرة على التحول إلى إدراك منتج للمعرفة ،خاصية القدرة على التوثيق، خاصية القدرة على التسلسل التمثيلي، خاصية القدرة على التعاقبية التاريخية؛ أي تميزها بخاصية «الحيوية»، وخاصيتا الثبات والصدق.
وخاصيتا الثبات والصدق لا يتوفران لأي حقيقة إلا في ضوء «الاتفاق الكامل للجمعي».
وتتم خاصيتا الصدق والثبات من خلال قبول استجابة» أي اتفاق جمعي» لمنطق الحقيقة الممثلة لهما أو تطبيقها أو استلهامها في إنتاج التشريع الخاص للجماعة.
وتلك الخصائص هي أيضا بدورها التي تحوّل الأشياء إلى مفاهيم.
ونحن وفق ما سبق أمام ثلاث مراتب الأشياء والمفاهيم والحقائق، وتتحول الأشياء إلى مفاهيم بفضل الإدراك المعرفي لطبيعة الأشياء، أما الأشياء فكما قلت في الموضوع السابق نُأنسنها عبر سحبها من مداها المبهم إلى فضاء علائقي من خلال دمجها مع اعتقاداتنا، والحقائق هي تحويل المفاهيم إلى استراتيجيات.
والإدراك سواء كمورِّد خام أو مُدمج أو استقرائي هو المؤثِر الأكبر في صناعة الحقيقة وفي صناعة صراعاتها الثقافية.
قد يسأل البعض هل كل إدراك يُمكن أن ننتج منه حقيقة؟
سأعود إلى مسألة الإمكانية فيما بعد، لكن الآن أريد توضيح ما هو الإدراك أو الأقرب إلى الوصف السؤالي كيف ينشأ الإدراك؟
والوقوف على ماهية الإدراك من حيث النشأة هو أمر ضروري كون الإدراك هو محفز وآلية صناعة الحقيقية.
هناك مستويان من الإدراك تتشكل من خلالهما حقيقة المرء أو الجماعة، الإدراك المُلِزم والإدراك الاختياري.
والإدراك المُلِزم هو عادة ما يفرضه الاتفاق الجمعي عبر منظوماته المختلفة، أما الإدراك الاختياري فهو ما يقرره الفرد في مرحلة استقلال فكره عن منظومات دستور الاتفاق الجمعي، وهو ما قد يؤدي إلى صراع الثقافة الفردية مع ثقافة الاتفاق الجمعي.
لو قارنا بين حقيقة مفهوم» الحرية» في إدراكنا الأولى المُلِزم من قِبل الاتفاق الجمعي وحقيقة المفهوم وفق المكتسب المستقل لإدراكنا سنجد هناك خلافا بين الحاصلين بل سنجد أنفسنا صانعين لحقيقة مفهوم متغيرة عن حقيقة المفهوم القديم، والمرء هاهنا أمامه طريق من طريقين الطريق الأول؛ العودة إلى حقيقة المفهوم القديم، والعودة قد تكون نتيجة أمر من الأمرين مدى قوة الإدراك المُلزِم وهيمنته على وعي الفرد، والأمر الثاني خوف المرء من النبذ والصراع.
والطريق الثاني رفض الحقيقة القديمة وإعلان الحقيقة الجديدة والسعي إلى فرضها وهنا سيدخل الفرد دائرة صراع ثقافة الحقائق.
أما فيما يتعلق بالإمكانية هل كل إدراك يُمكن أن ننتج منه حقيقة؟ فهي تعتمد على توفر شرط القيمة ولا تكتفي بأصل القيمة؛فوجود أصل القيمة دون كفاية شرط القدرة «تكسر قيمة الأصل» فلا تتحقق القيمة المعرفية للأصل.
ووفق تلك الاشتراطية يمكن القول إن «الإدراك المنكسر» لا يمكن أن يُنتج معرفة، وبذلك فليس كل إدراك يمكن أن ينتج معرفة.
وإن الإدراك المُنتج للمعرفة هو الإدراك المثبّت بقدرة كافية على تحول المنتج الإدراكي إلى معرفة.
هل هذا يعني بدوره أن كل حقيقة تلزم ضرورة اقتران بمعرفة، وأن كل معرفة هي حامل ضمني لحقيقة ما؟.
حسبما أعتقد نعم؛ لإن الحقيقة كما ذكرت هي وظيفة توثيقية لإثبات واقع معرفي.
ويمكن تقسيم المعرفة إلى قسمين؛ المعرفة المدركة بالاكتشاف والتوثيق وهي المنتجة للحقيقة الراهنة، والمعرفة المضمرة أو المعرفة غير المكتشفة أو القابلة للاكتشاف، والحقيقة الحاملة لها هي بدورها مضمرة لا تمثل في حالة حيزها الإضماري أفقا فكريا مؤثر لتفعيل ثقافي مؤسس.
لكنها تظل عاملا مهما في إشعال صراع الثقافات؛ لأنها حجة لمُنكر الحقيقة الراهنة أو المشكك بها أو المطالب بتغيرها باعتبار أن الإيمان بوجود معرفة مضمرة لها حقيقتها المضمرة يفتح سقف التأويل لصناعة حقيقة جديدة، ويجوّز اختبار الحقيقة القديمة بعامل النهضة أو إنكارها، كما أنه يرفع حصانة القدسية عن الحقائق الراهنة.
جدة