عنون الكاتب صلاح القرشي روايته بـ» تقاطع» وهذه العنونة تضعنا مباشرة حيال أمرين:
- الأول: أن ثمة تماهيا بين شخصيات الرواية، وتلاقيا في نقطة ما، تتقاطع فيها الأفعال أو المواقف، أو السمات وتتضاهى، ومن هنا فإن البحث عن النقاط المتشابهة بين هذه الشخصيات سيكون من الملائم حدوثه في فعل القراءة هنا.
- الثاني: أن ثمة اختلافا أيضا سوف يتم البحث عنه في النص الروائي، وهذا الاختلاف قد يكون اختلافا سيميولوجيا، له دلالاته المفارقة أو غير المفارقة في النص، او اختلافا أسلوبيا يتجلى في البنى السردية للنص الروائي.
وفي ظل هذين الأمرين ستغدو المقارنة فعلا قرائيا طبيعيا لبيان حالة التقاطع هذه، وأثرها المضارع أو المختلف طبقاً لما يزجيه الكاتب من أحداث ومشاهد في عمله الروائي.
ولعل هذا التقاطع سوف يحدونا لمتابعة ورصد نمو الشخصيتين الرئيستين اللتين ستحدث بينهما حالة التقاطع هذه على امتداد العمل الروائي، وهو نمو يؤكده الكاتب بجملة من الإضاءات السردية في النص.
إن العنونة مدخل مهم لقراءة العمل الأدبي، وهي تومىء ضمن ما تومىء إلى جملة من الإشارات تستهدف أولا معناها ودلالاتها التي تتوجه للقارىء، واستثمار عناصر متعددة تعمل على جذب القارىء ولفت انتباهه وإثارته، وذلك عبر عدة مستويات:
- اختيار العنوان الدال على العمل، وعلى المحتوى الذي ينطوي عليه العمل الأدبي.
- اختيار العنوان الملائم للسياق الزمكاني، سواء كان العنوان يعبر عن حدث ما، أو عن واقعة عامة، أو عن مكان محدد.
- اختيار الصيغة العنوانية الدالة، سواء جاء العنوان في صيغة كلمة واحدة، أوكلمة مضافة إلى كلمة، أو كلمة موصوفة، أو عدة كلمات متقاربة أو متباعدة دلاليا، أو على صيغة جملة بخواص مختلفة، كجملة خبرية أو حالية، أو وصفية، أو فعلية أو اسمية.
ففي كل هذه الصيغ فإن المؤلف يبقى في حال متقلبة بين التردد والاستقرار حتى يتهيأ له العنوان الأخير الذي يضعه على غلاف عمله الإبداعي، وهنا تنتهي حالة التوتر لتبدأ حالة التأويل والسؤال.
- تفرد العنوان، بمعنى أن تكرار العنوان بشكل متطابق بين عمل وآخر يمتنع تماما في الكتابة الإبداعية، إلا على نطاقين، أولهما: توارد العناوين بالصدفة، وثانيهما: تطابق العناوين كشكل من أشكال المعارضة الأدبية أو التناص.
هذه المستويات تتجلى حيالنا عند قراءة أي عنوان أدبي، وهذه المستويات قد تمثل نوعا من القراءة الفرضية لا المفروضة، المسبقة على عنوان العمل الأدبي.
بيد أنها لا تشكل نوعا من الضغط الجمالي على المؤلف الذي يختار بحرية مطلقة عناوينه.
وهو الأمر الذي يتجلى في عنوان:» تقاطع» لصلاح القرشي، فهذا العنوان، يتسم بـ:
- العمومية، لأنه غير مختص بسياقات الكاتب الإبداعية أو الزمكانية، أو الذاتية.
- الترداد والتكرار، لأن هذا العنوان كثيرا ما يتكرر إعلامياً أو إبداعياً.
- الهلامية، لأن هذا العنوان - في شكله التجريدي- لا يقبض على دلالة ما، وهو جاء على شكل نكرة، وغير مضاف إلى شيء، وبالتالي هو لا يعطينا دلالة خاصة، أو معنى محددا.
- الفضاء المفتوح، بمعنى أن هذا العنوان يعطي مجالا مفتوحا للتأويل والتساؤل.
لكن هل قصد الكاتب إلى كل هذه السمات التي ينطوي عليها العنوان.
إن صلاح القرشي ربما يكون اختار هذا العنوان العام ليشير إلى جملة من المحددات العامة الماثلة بين شخصيتي الرواية، وأن تقاطعهما هو تقاطع إنساني عام، قد يحدث في كل زمان ومكان، ولعل هذا التأويل قد يكون الأقرب إلى تفسير هذا العنوان الذي اصطفاه الكاتب إذا ما علمنا أن ثمة توظيفا تناصيا دالا يقوم به الكاتب لاستثمار قصة الشاعر الكميت بن زيد وعلاقته ببني أمية.
وهو هنا يستنطق التاريخ والتراث، ليشير إلى أن حالة الكاتب، ورؤيته أو مأساته، كامنة بالتاريخ في كل زمان ومكان.
إن الكاتب يتقاطع مع التاريخ أيضا، إنه يجلي اللحظة الراهنة بحادثة تاريخية قديمة، ويجلي التاريخ بحادثة معاصرة، لكنها - على بساطتها تشير إلى مأزق الكاتب والكتابة في هذا العصر.
إن الكاتب أراد أن يضفي معنى خاصا على معنى عام، أن يتقاطع - من وجهة تأويلية كلية - مع المعنى العام للإنسان وصراعه الوجودي، وهو بهذا يعطي المساحة القارئة فرصة للتأويل، كما يعطيها نوعا من التضامن مع استحضار دلالاتها المسبقة، فالمعنى الأدبي هنا ليس مجتثا عن جذوره الإنسانية والاجتماعية، إنما هو متواصل معها، فالمعنى في العمل الأدبي لا يتحقق وحده، أو بشروطه السياقية النصية، إنما يتحقق عبر مشاركة القارىء، حتى باستعدادات دلالية مسبقة تشكلها السياقات الإبداعية، ويشارك في تشكيلها المنتج الثقافي في أفق زمكاني واحد، وبحسب جاك ديريدا، «إن ما نصطلح عليه بـ»المعنى» (القابل للتعبير) مكون في جوانبه كلها من نسيج من الاختلافات، وبما أن النص موجود مسبقا كشبكة من الإحالات النصية لنصوص أخرى، وكتحول نصي يوسم فيه كل طرف مكون - رغم بساطته- بأثر طرف آخر، فإن الطابع الداخلي المزعوم للمعنى يقع مسبقا تحت تأثير خارجه ذاته، ويكون مسبقاً مغايراً differante (لذاته) قبل أي حدث تعبير، وبهذا الشرط فقط يمكن أن يشكل نظماsyntagme أو نصا، بل بهذا الشرط فقط يمكنه أن يكون دالا».
جاك ديريدا: مواقع، حوارات من ترجمة وتقديم فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1992 ص.
ص 34-35 من هنا فإن تلقي المعنى وتأويله لا يتم تماما عبر سياقات النص، قدر ما يشارك القارىء في صنع هذا المعنى.
وقد وردت كلمة « تقاطع» بمفهومها الدلالي المتعدد الذي يشي به عنوان الرواية في نهايات الرواية في الفصل السابع عشر من الرواية، في حديث الراوي/ الكاتب داخل الرواية إلى زوجته: «حدثتها عن الرواية وعن إحساسي بالحزن لما آل إليه مصير فرحان العُص لكنني استغربت أنها لم تسمع بفرحان من قبل.
عندما أعدت قراءة ما كتبت وجدت أن ما كتبته عن نفسي يكاد يفوق المكتوب عن العُص. قلت (لا يهم فنحن نتقاطع كثيرا).
حياة الرجل الذي يحترمه أغلب أهل الحي تتقاطع مع حياة الشاب الذي يتحدث الجميع عنه بالسوء ولا يحبون التطرق لسيرته.
لو أخبرتها أنني أشبه فرحان العص الذي حدثتها عنه وعن مصيره المحزن لعادت إلى بيت أهلها مجددا وهي متأكدة أنني «مجنون رسمي» تقاطع ص 108 هذا التقاطع الدال هو جوهر الرواية، فقد اصطفى المؤلف هذا العنوان ليدلل على أن التقاطع حادث، بين شخصية المثقف: الراوي / الكاتب/ السارد وبين شخصية فرحان العص، إنه الإحساس نفسه الذي يتجلى في هذه الشخصية الحركية الدرامية التي تجلس في الطرقات تراقب الأشياء والناس والمواقف، تعيش حياتها بتلقائية وفطرية، ترقص في الأفراح، تسهر، تعبر عن حريتها بشكل أو بآخر، وهو ما يفتقده الراوي/ الكاتب في حياته المنمقة بالكتابة والاكتئاب والحزن، والذي يكبت إحساسه أو طريقة تصرفاته في الحياة اعتبارا للمجتمع الذي يضفي على شخصية ما وقارها، وهو ما يشير إليه القرشي في موضع آخر من الرواية:» مسكين العُص.. يجلس كل يوم على الدكة الركنية ليراقب الملابس الزرقاء والبنية وهي تتحرك.. ليلمح بعض الأصابع وهي تمسك الحقيبة المدرسية.. ثم ليتخيل ما تحت العباءة كما يشاء بعد ذلك.
فكرت مرة.. ماذا لو صحوت مبكرا وذهبت إلى الدكة أسفل الحارة حيث كان يجلس العص ورفاقه وأخذت أراقب موكب طائر البطريق. منظري سيكون مضحكاً ليس لأنني أكبر سنا ولكن لأنني أكثر وقاراً.. الوقار في ذلك المكان هو حتما مضحك لأن الجلوس هناك يتطلب أن تلبس الشماغ بطريقة معينة, أن يكون لون الشماغ نفسه مختلفا, أن تجلس بطريقة مختلفة وتتحدث بطريقة مختلفة « تقاطع ص. ص 107- 108.
إنه التقاطع المكبوت الذي يريد أن يجليه الكاتب لكن الحصار الاجتماعي، بأدبياته وثقافته وأعرافه يرفض ذلك.
إن القرشي يريد أن يصل للقول: إن الحياة الإنسانية متشابهة ومتقاطعة.
إن التصرفات البسيطة والتلقائية والفطرية هي من القواسم المشتركة، بيد أن الادعاء الاجتماعي أو الرقابة الاجتماعية التي اعتادت على رسم ملامح معينة لكل شخصية هي التي تكبت هذه التلقائية والفطرة.
إن فرحان العص لقي مصيره الحزين المحتوم، بعد أن فشل دراسياً وانحرف واتجه للمخدرات وألقي القبض عليه، لكن هذا المصير هل كان مصيراً نمطياً مرسوماً من قبل الشخصية نفسها، أم أن للمجتمع دورا في صناعته؟ هذا ما يفصح عنه القرشي في نهاية روايته.
الرياض