(1)
في سياق التحولات الشعرية التي حدثت في منتصف القرن العشرين، كانت حركة الشعر الحر تجربة استثنائية أخرجت القصيدة العربية من الغنائية إلى الدرامية، ولم تكن مجرد تغيير على مستوى الإيقاع، أو نزعة فنية أو ظاهرة أسلوبية، تضاف إلى التراكم الأدبي الذي مر به الشعر العربي عبر القرون.
لقد مثلت حركة الشعر الحر ظاهرة ثقافية، اقترنت بقيم مقتبسة من مفهوم الحرية في المصطلح -على إشكاليته لدى النقاد- فحدث أن غادرت القصيدة العربية مضارب الفحولة إلى حدائق الأنوثة، فكانت تلك المغادرة حركة في مسار التأنيث، وانحساراً في مضايق التفحيل شعرياً، ومثلت تحريراً للذات المبدعة.
ولعل من علامات ذلك التحول المهمة من الفحولة إلى الأنوثة رمزياً، أن ارتبطت ريادته شعرياً ونقدياً بمبدعة أنثى، هي الشاعرة الشابة حينئذ نازك الملائكة، وأن انطلاق ذلك التحول كان من بغداد، معقل فحولة الشعر وعموده، حتى أن ريادة السياب قسيم نازك الشعري في هذا السياق، ارتبطت خصوصيتها بتوكيد قيم التأنيث الشعرية، وتلك علامات قوربت ثقافياً (من أبرز المقاربات كتاب: تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، د.عبدالله الغذامي).
(2)
لم يكن ذلك التحول الإبداعي في الشعر، عابراً أو منقطعاً عن حركة الوعي الثقافي والسياسي التي أفضت إلى ثورات وحركات التحرر والاستقلال، إذ شهدت المدن العربية ثورات وطنية ضد المستعمر الأجنبي، في مدى المشروع القومي، غير أن تلك الثورات - وهي تواجه أسئلة الحرية والديمقراطية والمدنية بما هي قيم رفعتها تلك الثورات شعارات في مواجهة الاحتلال وسياساته التي حاولت تكريس التبعية، بأساليب شتى- لم تنجز شروط الجمهورية في بناء دولة مدنية حديثة، وسرعان ما احتواها اتجاه منافٍ للمدنية والديمقراطية، إذ وصل إلى السلطة ضبّاط وقادة عسكريون، منتمون إلى جبهات أو أحزاب قومية، انقلبت على الديمقراطية، وكرّست سلطتها الشمولية بدعاوى مواجهة الاستعمار والاستعمار الجديد، وإن وُجِدت، هنا وهناك، هوامشُ معينة هي ما تبقى من صفحات مشرقة في تاريخ الأنظمة القومية التي تعاقبت على الأقطار العربية.
(3)
ولعل قراءة المشهدين الشعري والسياسي، في تلك الحقبة، تبين عن توازٍ بينهما، مثّل قطيعةً بين منطلقات كل منهما، وما آل إليه من مآلات جوهرية، إذ أنجزت حركة الشعر الحر تحولاً نوعياً، له دلالاته الثقافية الخاصة، فيما تعثرت عملية التحول الحقيقي إلى الدولة المدنية الحديثة، وبرزت ملامح شبيهة بها، تتوسلها الأنظمة تسويغاً لضرورة بقائها، وترويجاً لمشاريعها النظرية التي بينها وبين الإنجاز مسافات ليس من اليسير اختزالها، إذ إنها تمثل الفحولة بالمعنى السياسي، في لحظة التأنيث بالمعنى الشعري، وهي حالة تشخص التناقض بين لحظتين، كان ينبغي لهما أن تنسجما في لحظة تاريخية معينة، ولكنهما ظلتا متوازيتين، يتربص السياسيُّ فيها بالشعري، في أحيان كثيرة، أو لا يدرك أبعاد المنجز الشعري ثقافياً، ولا يقرأ جوهر ما حدث من زلزلة شعرية ظاهرها تحول إيقاعي، فيما هي تحول على مستوى الرؤية والأداء، ومحاولة، باللغة، لتشكيل الذات والعالم جمالياً وفكرياً.
(4)
بين ما حدث من تحول شعري، وما تحقق من (استقلال) سياسي، يقف المتأمل على واحدة من مفارقات الزمن العربي المعاصر في العلاقة بين الشعر والسلطة، فتحرير الذات المبدعة بكتابة شعرية مغايرة، حرر القصيدة من كتابة نسقية في أعتى الأغراض الشعرية العربية: المديح. وإذ انتكست حركات التحرر أو الثورات العربية بأنظمة عسكرية ادعت أو انتحلت صفة المدنية، وكرست ديكتاتورية الحاكم أو الحزب (الوطني) الذي يستعيد صورة الممدوح القديم، فإن القصيدة الجديدة التي غادرت الفحولة، ظلت على مسافة من مديح الطغاة، فالمديح المعاصر -إن جازت التسمية - لم تكن القصيدة الجديدة تحتمله، لأنها على النقيض منه رؤية وأداءً؛ لذلك فالشاعر المعاصر إذ يمدح، رهبةً أو رغبةً، فهو ينظم على أوزان الخليل، في تماهٍ مع صورة المدّاح القديم، وكثيراً ما ارتبط الشعراء المعاصرون المادحون بالسلطة مؤدلجين أو متكسبين، ما يعني أن فاعلية التحول الإبداعي، ممتدة في عمق الرؤية الشعرية، وأن حالة الافتراق بين الشعري والسياسي، تكشف عن حالة افتراق بين موقفين جوهريين: إنساني، ولا إنساني.
ssjariri@gmail.com
اليمن