منذ فترة ليست بالبعيدة يتبادر إلى ذهني سؤال لم أجد له إجابة مقنعة: لماذا لم يكتب الفن في مجتمعنا السلك العسكري بشكل عميق ودقيق؟ ولماذا لم يؤرخ الفن هذا السلك بشكل إنساني كما يحصل في الدول الكبرى؟، وهل الفن ينبغي أن يكون رديف التجربة فقط؟، بمعنى أن عدم انخراط الكثير من المبدعين في السلك العسكري سيكون سببا في غياب هذا المجال عن الساحة الإبداعية؟ أم أن السلك العسكري في مجتمعنا لم ينجب لنا فنانين ومبدعين يمكنهم أن يكتبوه بطريقة فنية جيدة؟.
مثل هذه الأسئلة تقود إلى استعراض المنتج الأدبي المحلي، ولاسيما الروائي منه، ومعرفة هل السلك العسكري كان موجودا في النتاج الأدبي أم لا؟، والمطّلع يدرك جيدا بأن الروائي عبده خال كتب عن حرب الخليج في روايته «نباح»، وتأثيرها على إنسان الهامش، وتبعات هذه الحرب عليهم، إضافة إلى بطله العسكري في رواية «فسوق»، والروائي يوسف المحيميد هو الآخركتب في رواية «القارورة» عن حرب الخليج إضافة للتطرق للجانب العسكري من خلال أحد أبطال هذه الرواية الذي كان يعمل عسكريا، لكنهما كتبا السلك العسكري بشكل سطحي ولم يتعمقا فيه، ليأتي عبده خال مرة أخرى ويكتب عن حرب الحوثيين التي حدثت مؤخرا في روايته الأخيرة «لوعة الغاوية»، وهناك روايات أخرى تحدثت عن حرب الخليج الأولى وأثرها على الإنسان في المملكة العربية السعودية، وإلى هذا الحد أنا لم أقرأ رواية واحدة تؤرخ للسلك العسكري من الداخل، وحياة الفرد العسكري كإنسان قبل أن يكون عسكريا، وطموحات العسكري كإنسان قبل كل شيء.
هذه الفكرة ألحت علي مؤخرا بعدما قرأت رواية «التغيير» للروائي الصيني «مو يان» الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 2012، فهذه الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون هذا العام، وربما أخطأ الناشر وهويصنّف العمل على أنه رواية، وهو في حقيقة الأمر سيرة ذاتية للمؤلف تحدث فيها عن رحلته في الحياة ابتداء من مولده، مرورا بتجربته في السلك العسكري، وصولا إلى شهرته العظيمة في الصين لكونه فنانا وكاتبا حقيقيا، وحصوله على جائزة نوبل في الأدب مؤخرا.
فحينما تقرأ هذا العمل تجد أنك أمام صراع لا مثيل له بين الإنسان والحياة، فهذا الكاتب العظيم الذي افترس جائزة نوبل عن استحقاق في اعتقادي، كان في يوم من الأيام يطمح أن يكون سائقا لعربة عسكرية، وأن يحظى بهذا الشرف، نظرا لأن العسكرية في يوم من الأيام كانت محل فخر للشعب الصيني، فطموحه في تلك الأيام التي كان عمره فيها لا يتجاوز التاسعة عشرة أن يجلس خلف مقود عربة عسكرية ويكون له شأن في هذا السلك، ورغم كل ما حدث لـ «مو يان»من إتاحة الفرص لإكمال دراسته، إلا أن شغفه بالجنديّة جعله يتمسك بطموحه أن يكون ذو شرف بهذه الجندية، فهل في الجندية شرف يوازي شرف أن تكون كاتبا؟، وفي النهاية بعد أن سقطت هذه الأمنية لدى «مو يان» توجه للكتابة وصار أحد أهم كتاب هذا القرن.
مثل هذه الطموحات تطرح علينا سؤالا آخر، هل العسكرية لدينا شرف؟، ولماذا لم يكتبها المنتمين لها في أوساطنا، فنحن نعرف كثيرا من الكتّاب يعملون في السلك العسكري لكنهم لم يكتبوا عنه، فلماذا غيّب السلك العسكري عن الفن المحلي؟، وهل للتجنيد الإجباري دور في ذلك، لكوننا بلدا ليس فيه تجنيد إجباري، وبالتالي فإن الكثير من المبدعين لم يعيشوا هذه التجربة ليكتبوا عنها.
فـ «مو يان» رغم ما حدث له من تحولات كبيرة بعد أن ترك السلك العسكري ودخل في زمرة الكتاب العظماء إلا أنه أشار لتجربته العسكرية بزهو، فجاءت هذه التجربة لتعمّق في داخله الكثير من القيم،فهي تجربة رائعة بكل تأكيد، ولو استعرضنا الأدب العالمي سنجد أن هناك الكثير من الكتاب العظماء أثرت عليهم تجربة العسكرية والحروب، وكان لها دوركبير فيما يكتبون، أمثال ارنست همنغواي، وبوفالينو، وغيرهم كثير.
أدرك حساسية الحديث عن السلك العسكري في مجتمعنا، لكن لا ينبغي أن يتحدث الكاتب إذا أراد أن يكتب عن هذا الجانب عن الأمور ذات الحساسية العالية، إنما يمكنه أن ينطلق من فكرة الإنسان العسكري، ويتعاطى مع الإنسان بعيدا عن أي شيء آخر، فأنا أتصور بأن فكرة كهذه جديرة بالكتابة.
Alwan_mohd@hotmail.com
تبوك