ماذا تريد أيّها العربيّ الذي لم نتّفق بعد على سببٍ لمسمّاه الآسر؟ ومن أنتَ في هذه
الساعة المتأخّرة من عمر الخليقة؟ ولكم أنتَ غافلٌ: أنّ الاختلافَ حول أسباب تسمية العربيّ بالعربي، ومن هو العربيّ فرصةٌ مصيريّةٌ للخروج من مفهوم القوم الضيّق العصبي إلى رحابة مفهوم المواطن والسكّان، لكنّه التيه يُعمي البصر والبصيرة.
**
بين فكرٍ حيٍّ يلفظُ فعلَ حياةٍ، وبين فكرٍ ميتٍ لا عُقبى له، يقفُ العربيّ مأزوماً: (بماذا يريدُ؟)، مأزوماً: (بمن أنا؟)، أزمةُ انتماءٍ ضبابيٍّ بين انتماءاتٍ عدّةٍ تَسُوقُه إلى نزاعات عدميّةٍ ودمويّةٍ، ولا يرى: (طبيعته اللا-انتمائيّة) بوصفه كائناً ممتدّاً، حيّاً وتاريخاً، جامعاً لأعراق متعدّدة، مهجّناً بها ومهجّنةً به، ولا يقنع بالقدر الذي جعله كائناً يحتوي (الأنا والآخرين معاً) كائناً: (أشورياً، آراميّاً، سريانيّاً، كلدانيّاً، كنعانيّاً، حميريّا، يعربيّاً، قبطيّاً، أعجميّاً، بربريّاً، حبشيّاً وأفريقيّا، سنديّاً وشرقيّاً..) انتماءٌ مفتوحٌ على الأعراق جميعها، وليس انتماء لعرق دون آخر، لطالما سقط العرق تاريخيّاً ولم يكن محسوماً في طبيعة العربيّ ومسمّاه وهويّته، انتماءٌ مفتوحٌ على الأديان جميعها، والمذاهب جميعها؛
يقف العربيّ شاكّاً بكلّ أملٍ بالخروجِ من هذا التيه الطويل؛ وعلى الرغم من الإدراك والوعي التامّ أنّ التوفيق والتعثّر ناتجان، وليس طبيعتين تخصّان تجمّعاً إنسانيّاً دون آخر، إلاّ أنّ اليأس يكادُ يمرّ على كلّ شيْءٍ، فهذا الخراب السياسي الرجيم يضرب المنطقة العربيّة تقسيماً عقب آخر، وهذا الخراب المفاهيمي الرديم في قراءة الواقع يُشلّ العقل تماماً، وهذا العنف الدمويّ يقضي على أيّ بارقة أملٍ باللحاق بالحياة.
**
لا يظنّنّ أحدٌ أنّ الفسادَ مسألةٌ محصورة بأهل السياسة التشريعيّين والتنفيذيين فقط، إنّه في الشعب أيضاً، لممانعته الدخول في عصر (المواطنين-السكّان) والتنازل عن فساديّة مفهوم الشعب والقوم، وما تحملانه من مفاهيم إقصائيّة ونزاعيّة تستأثر بالوطن على جزء قويّ دون جزء ضعيف؛ وأزمة هكذا مفهوم تزداد تفاقماً ونزاعاتٍ دمويّة حين يكون هذا (الشعب المفترض) مُشكّلاً من أعراق ومذاهب مختلفة، بحيث إنّه لا يكون واحداً أبداً إلاّ بقبوله واعترافه أنّه ليس واحداً. أيّة مفارقة إذاً؛ وكم نحتاج من الدماء والوقت حتّى ندركها، وكم من مفارقات ضديّة تحملها لفظة الشعب نفسها: (الجمع والفرقة، والإصلاح والإفساد).
**
ماذا تريد أيّها العربي: (أ) التحرّر من التبعيّة الغربيّة عبر الإنتاج والاقتصاد والقوّة؟ أم (ب) تحقيق الرفاهيّة والسعادة للمواطنين التائهين في عمه التجهيل والعوز اليومي؟!
**
لأمرٍ يطغى تأثيره على النكران: أنّ الرأسماليّة تُعمي من يدور في فلكها، بحيث إنّ المثقّف العربي اليميني لا يرى سواها حاضرة؛ يعمى أن يرى الصين قوّةً، إنتاجاً، تأثيراً في ميزان واردات وصادرات بين دول العالم بما فيها الولايات المتحدّة الأمريكيّة، أو أنّه نسي أو يتناسى/يتغابى أنّ الصين دولة شيوعيّة.
والمسألة: أنّ المثقّف العربي -إن كان وعيه الاقتصاديّ غير مغيّب- يتجاهل النموذج الصيني لأنّه يُفسد عليه أوهامه الرابطة بين الحضارة والأخلاق وبين المفاهيم الغربيّة؛ فهو يبشّر أنّ التقدّم والسيادة لا تكون بدون ديمقراطيّة، ولا سيادة بدون الحقوق المدنيّة الغربيّة الضامنة للعدالة والحرية والمساواة، ويتجاهل اقتصادات في حالة نمو لا تتوفّر فيها المفاهيم والحقوق المدنيّة التي يربطها بالنمو والسيادة: (دول بريكس/BRICS: البرازيل، روسيا الإتحاديّة، الهند، الصين، جنوب إفريقيا).
حسناً، لماذا هذه اللمحة الاقتصاديّة السريعة؟ إنّها مجرّد شوكة في عيون الذين يربطون الإنتاج بمفاهيم العدالة والحرية والمساواة، أين هذه المفاهيم والرفاهية والسعادة في دول الصين والبرازيل وروسيا والهند؟
كلّ هذا الإنتاج والقوّة والحجم والذكاء والاستقلاليّة في الصين ولا يريد العربي أن يراها، لماذا؟ لأنّها تفسد عليه كلّ بضاعته. فأين الديمقراطيّة، الليبراليّة، التعدّديّة!
**
الحضارة ليست مسألة مربوطة بنظام سياسيّ أو تتأثّر بأخلاقيّاتٍ، إنّما أسبابها: (القوّة والعلم والمعرفة والإنتاج والعمل) وهذه المنظومة هي المسؤولة عن الحضارة والسيادة.
أمّا الأخلاق أيّا كانت غربيّة أم شرقيّة فإنّما قدرتها واقعة على نسب السعادة والرفاهية، وهو ما نجده في الدول الإسكندونافيّة:(السويد، النرويج، الدنمارك،..) ذات المعدلات العالية من الدخل والحريات والحقوق الاجتماعيّة والفرص، وفي الوقت عينه هي دول ملكيّة برلمانيّة لا تتمتّع بأيّ نفوذ سياسيّ على العالم، حسبك أنّها تابعة كبقيّة العالم، لكنّها -أخلاقيّاً - لا تكون إلاّ هي.
**
قوّة العربيّ كامنة في الشيء الذي يرفضه ويطمسه، قوّة العربي في تعدّده، وضعفه أنّه يطمس هذا التعدّد.
**
إنّ وعياً يُهيمن عليه الموتى مشكوكٌ في استطاعته أن يرى الحياة؛ كيف تُفنع وعياً مجبولاً على سفك الدم وملهوفاً على الموت والخراب بقيمة الحياة؟!، وأيّ جنونٍ تَقْربُهُ الأساطيرُ الجديدة حين تُوآخي زوراً بين حمرة الدماء وبين الربيع! فهل من عاقلٍ يتوقّع من هكذا وعْيٍّ مدفون في الغياب أن يُسهم في بناء الحضارة إذا كان تصوّره لها مُؤسّساً على جُثثِ القتل وأشباح الموتى!
**
هذا (العبّاسي الجديد) في الشمال الإفريقي، وفي سوريّة الذابحة والذبيحة، هذا الذي ينبش القبور ويُمثّل بعورات الموتى عرضاً في الأسواق وساحات الناس: ما الذي يمكن أن يُقال فيه؟ وأيّ فرصة للحياة وأنتَ بجواره، وكيف تعوّل عليه أن يبني وطناً يسع الجميع!
**
كلّ فريق يردّد: (اللهُ معنا)، كلّ فريق يُردّد: (الله أكبر)؛ وحده السلاح والدم المسفوك قبلة يؤمّها أهل هذه الخريطة اليائسة من سكّانها.
**
بين قوّة الصين وحضارتها القديمة والحاضرة المؤثّرة على العالم شرقاً وغرباً، وهي ذات حزب واحد شموليّ، فلا ديمقراطيّة ولا تعدّديّة، وبالكاد حريّات مقنّنة لحدود متدنيّة، وبين رفاهيّات تعيشها دول السويد والدنمارك النرويج..، حجّة أنّ القوّة والحضارة ليست مرهونة بنظام سياسي معيّن، فكما أنّ النظام الأمريكيّ الرئاسي المتعدّد الأحزاب نجح في قيادة العالم حضارة وقوّة، فإنّ النظام الشيوعي الصيني ذا الحزب الواحد ينجح في التأثير على العالم. ولأمر فجٍّ في وضوحه واستخفافه، فإنّ الإعلام العربيّ يعمى عن شيوعيّة الصين وتطوّرها، ولم يكن ذلك سهلاً لولا نوم اليسار العربي في غيهبٍ، عجّل الله فرجه.
**
هذه الأنظمة العربيّة التي تمارس الديمقراطيّة التمثيليّة ولا تستند في دساتيرها إلى موادٍ تشريعيّة تثبّت العلمنة إنّما هي تمارس تزويراً على نفسها ومواطنيها وممثليها؛ وكلّ من يشارك في هذه المسرحيّة التي تشوّه أصول المعرفة السياسيّة للنظم الديمقراطيّة -ناخباً أو مرشّحاً، سلطة أو معارضةً- فإنّما يشارك في هذا التزوير والتشويه السياسي، وفي زعمي، أنّه لا يختلف عن استبداد السلطة نفسها وتسفيهها لعقول المواطنين-السكّان.
**
اليسار الجديد ليس مع السلطة: حكومة ومعارضة معاً، اليسار الجديد مع الإنسان؛ والأمّة التي تتخلّى عن اليسار تتحوّل إلى وكرٍ من التوحّش والوحشة والاغتراب.
**
كلّ الأطراف المتنازعة على السلطة اليوم في الدول العربيّة في طرف واحدٍ، ولا يختلف كثيراً أيّ يمين ديني عن أيّ يمين رأسماليّ.
**
أزعم أنّ أساس الخراب متربّصٌ ومرصودٌ في المدرسة منهجةً وتعليباً، (وليس مصادفة: مدرسة من درس)، إذّاك يكون من العبث الظنّ بأنّ إعادة التأهيل مسألة منوطة بالتعليم، إنّها هي مسألة منوطة بخارج المؤسّسة التعليميّة، إنّها في أيّ مكان غير ذاك المصنع الذي يؤهل الإنسان؛ هذا هو سرّ الانترنت.
**
لم يكن أسامة بن لادن نبتاً غريباً، لعلّه كان العربيّ الأصدق في تمثيل التيه، والأنقى في الامتثال للموروث الديني دون مواربة وانتقاء لما فيه من تحريض على العنف لم يتبرّأ منه أو يعالجه الفقهاء المعاصرون، فما كان ليخفي تفاسيرهم الإنسانيّة إنّما يهتدي (على الظنّ وعلى غير هدي المتن القرآني) تأثّراً بما اختلق الفقهاء الأوائل بابتداع الناسخ والمنسوخ وإسقاطه على آية البقرة/191:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أنّها (نسخت: بالمعنى الذي يفترضونه، أي الإلغاء) أكثر من مئة آية في المتن القرآني على دلالتهم المختلقة: (رفع الحكم وبقاء اللفظ)، وكلّها آيّات تحثّ على التعايش والمحبّة والمشيئة العقديّة الاختياريّة، وعلى رأسها: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (256) سورة البقرة؛ لكنّ الربيع العربي جاء مصدّقاً عليه كونه نباتاً من هذه الأرض العربيّة الغارقة في التيه، ولم يأتِ مصدّقاً على منتقديه العرب، فليس هو من رحم غير رحمهم، أو صناعة غير صناعتهم، ونحن نرى اليوم النبات الدمويّ في الإنسان العربي وتعطّشه للعنف والقتل في تصفية خلافاته، وتكاد تكون طبيعةً جُبِلَ عليها، حتّى إذا ما اعترض عليه أحد: قام بجميع أطيافه وتيّاراته تكفيراً وإقصاء لكلّ من يخالفه، لا لشيءٍ، سوى أنّه ليس على النبتة الدمويّة عينها، والتي تبيح القتل والدم حلاً بديلاً عن أيّ حوار وأيّ تمدّن؛ فإلى أيّ عصر ننتمي، وهل تحت هذه الهاوية هاويات أعمق سحقاً؟!
Yaser.hejazi@gmailc.om
جدة