« السلامُ على كلّ شيء/ السلامُ على نخلةٍ في الحجازِ/ وواحدةٍ لا تردّ عليّ»**
السلامُ عليكِ يا نخلةَ الله، يا أشرفَ الشجر، يا حليفة النصرِ والمجدِ والطير والبشر، أيتها الحانيةُ الحاليةُ المانحةُ العاليةُ الباسقة، أيتها المسبّحة الصامتةُ الناطقة،أيتها الأم، والمرأة الوطنُ، والطفلةُ الحلم، والأمل، والبهجةُ، والجلال والجمال.
أيتها الطيبة الثابتةُ في الأرض، المتفرعة بعزّةٍ وزهوٍ في السماء، يا نعمة الماء في الصحراء، وأمن الفقراء، وحلوى الأغنياء.
يا حليفة الإنسان منذ البدء، حماك حمورابي بقوانينه: « من يقطع شجرة النخيل يغرم نصف نصيبه» . واستظلت مريم وابنها المسيح عيسى عليه السلام بظلك، وهزت جذعك فكتب الله لهما الحياة برطبك، واستقبله أهل بيت المقدس بتمرك، وفرشوا له الدرب بسعفك، ونزل القرآن الكريم على خير الأنام فرفع من قدرك بذكرك، وجعلك الله من ثمار الجنةِ، وأكرمك رسوله العربيّ الأمين، وكنت زاده في الرخاء والشدة، وزاد أصحابه من الأنصار والمهاجرين الصابرين، والفاتحين، الأول.
أكتبُ إليك اليوم وأنا في أراضيك وحماك، ومنابتك المباركةِ الأولى، ولا يُحسن الكتابة لمثلك إلا من تظلّل بفيئك وخيرك، وأفطر بتمرك، ذاك الذي، كما يقول ابن الرومي:
ألذّ من السلوى وأحلى من المنِّ
وأعذبُ من وصلِ الحبيبِ على الصّدِّ
وشاركك الماء والشمس والرياح والنهار. أكتبُ يا سيدتي لأشكرك على ما منحتني من الحكمة والصبر، والوقت الرحب للتأمل والقراءة والكتابة كما أفعل الآن أيتها الحبيبة، فأنا كلما قرأت التاريخ وقصة الحضارات والفتوحات كنت الأطول والأجمل، وكنت كالجندي المجهول الذي يمنح النصر ويمثله.
وإذا ما قرأت كتاب الله كنتِ الشجرة من الجذور إلى الثمرةِ والنوى، فكنت المثل والحكمة والكلمة الطيبة للمؤمن العارف.
أكتب إليك يا عروس المدائن والقرى، وحنين الطفولة، وذاكرة الكهولة، وقد آخيتك تنقلاً وسفراً، من المدينة والحجاز واليمنِ إلى نجد إلى الأحساء إلى الخليج إلى العراق وبلاد الشام إلى المغرب العربي إلى الأندلس وإسبانيا وصقلية وجِبِلينا حيث حضارتنا الأم لا تزال شاهداً في المقام والمقال، في الجغرافيا والتاريخ المنصف، وكنتِ تثيرين الحنين منذ رحلتك الأولى باتجاه الغرب، فهذا صقر قريش عبد الرحمن الداخل يحنّ إلى الحمى لما أشعلتِ ذاكرته وروحه بحسنك:
تبدّتْ لنا وسط الرّصافةِ نخلةٌ
تناءتْ بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخلِ.
فقلتُ شبيهي في التغرّبِ والنوى
وطولِ التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
كما فعل ذلك غيره كثير من القادة والعشاق والشعراء، فهذا جحدر يرثي نفسه في العراق، ويدميه الشوق إلى سليمى واليمامة:
إذا جاورتما نخلاتِ حِجْرٍ
وأوديةَ اليمامةِ فانعياني
وقولا جحدرٌ أمسى رهيناً
يحاذرُ وقعَ مصقولٍ يماني.
أكتبُ إليكِ وأهلكِ يا للعار يقتتلون في كل ربوع أمتك تقريباً، تعصف بهم الفتن والتيارات، وتطحنهم الحروب، وتقسمهم الأهواء، ويقتسم ثرواتهم الغرباء، يهدمون ما شيّد الآباء والأجداد، ويُدمّرون مكتسبات الأمة بأيديهم (كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً)، بينما هم فرجة وفرحٌ لعدوهم الأول مغتصب أراضيهم، ومدنس مسجدهم الأقصى، الكيان العسكري الإسرائيلي الذي يهدد وجود وثقافة كافة أوطان الأمة.
فيا سيدتي الجميلة النبيلة التي لا تتحوّل ولا تتبدّل، القوم غربوا واغتربوا، وأصبحوا كالعرائس المتحركة، فذابوا وما تابوا وقد رأوا بأم أعينهم نتائج الفتن والحروب على الأرض، كما رأوا زيف العهود والوعود التي يمنحها الأعداء.
آه يا سيدتي سيدة الشجر، هذا هو واقعي، وهذا هو مصابي، فمعظم الناس ترى الحق وتحيد عنه، حين زين الجهل لهم الباطل، وقد كنتُ مذ أول العمر لا أملّ من مخاطبتهم بلينٍ ورفقٍ مشيراً إليك: أيها الغريب نخلتكَ الأولى على بعدِ التفاتةٍ فالتفِتْ!!
لكنّ الغريب ازداد غربةً ولم يلتفتْ.
> للجواهري:
سلامٌ على هضباتِ العراق
وشطّيْهِ والجُرْف والمنحنى
على النخلِ ذي السعفاتِ الطوالِ
على سيّدِ الشجرِ المُقتنى
> للشاعر كاتب المقال.
الرياض
mjharbi@hotmail.com