من عنوان الرواية تبدو لك أن رواية (نساء البخور) فقط عن النساء والبخور وكل ما يتعلق بالمرأة من بخور وملبس إلى ما لا نهاية. ترددت أكثر من مرة بتصفح الرواية لاعتقادي أنها عن النساء وحياتهن ولكن عندما بدأت أقرأ اتجذبتُ للرواية وللغتها الممتعة غير المقعرة، وكذلك الوجوه المختلفة في الرواية من عاملات من نساء المملكة في ستينيات القرن الماضي يجمعهن سوق المقيبرة الذي يبدأ دبيب الحياة فيه من عمل وحلم ورؤية للمستقبل وأكثر حضورا في الرواية هي الوجوه السعودية واليمنية بحيث تدل لنا الرواية القرب الجغرافي بين البلدين والعلاقة الاجتماعية منذ الأزل وخاصة في فترة الستينيات التي كتب عنها المؤلف خالد اليوسف فكان وجود اليمنيين بعدد كبير في المملكة العربية السعودية وخاصة في الرياض وسوقها سوق المقيبرة لليمانيين في (المقيبرة) وما يحيط بها مواطن أخرى لهم فيها حضور وبروز، ولهم نشاط جاء بعد أن انغمست أناملهم بين الورق والمداد، وحفرت أقدامهم طريقاً إلى حلقات العلم والتعلم ص(45). وسوق المقيبرة الذي عرف سعيد الأعرج وشهاب الزين وغيرهم من أبناء اليمن وهم يتطلعون إلى حياة أفضل في الرياض ومراقبة الوضع والحياة في اليمن اقتصاديا وسياسيا شوف ماهو لازم تتابع إذاعة صنعاء فقط، ياليتك تسمع إذاعة لندن والا القاهرة والا بغداد، هذي فيها برامج تنور عقلك المقفل! ص(38). ويرصد خالد اليوسف كيف كانت النساء في الماضي كان لهن دور في الحياة من عمل في السوق لحياة كريمة لهن ولأبنائهن، ومن الشخصيات البارزة النسائية في الرواية هي مريم الورقاء التي كانت تهتم بالسوق وترتيبه مع زميلاتها، ولكن دخول أم زيد إلى السوق جعلت التنافس بينهن يزيد، وبدخول أم زيد إلى السوق هو دخول عقلية جديدة مما يلفت النظر أن في السوق هناك تفاوتا في العقلية والتفكير وخاصة لدى أم زيد التي استثمرت استخدام الراديو لسماع أخبار القاهرة والكويت وتسمع آخر المستجدات وخاصة أخبار الحرب وكان تخبر زميلاتها عن الأخبار والقلق الذي يراودها أن يصل شظايا الحرب أي حرب 1967 إلى انحاء العالم العربي ومنها العاصمة الرياض وتشل حركة الاقتصاد وخاصة اقتصاد سوق المقيبرة مصدر رزقهن، وهنا يلج اليوسف في نفسيات أبطال الرواية ويشعر القارئ ماهو الواقع، وكذلك كيف يصبح المرء العادي مهتما بكل صغيرة وكبيرة في المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان مع الأمل والألم معاً. أما القصور في الرواية فترمز إلى أن في تلك الفترة بدأت العوائل النجدية تهجر بيوتها الطينية التي كانت منتشرة في الرياض والتي أصبحت يوما ما عزبا للعمال اليمنيين. فيبدو الحنين للكاتب لجدران البيوت الطينية التي لم يعش فيها الجيل الجديد في المملكة وما تحمله تلك البيوت من دفء في أيام الفصول الأربعة والشعور بقرب الإنسان منها لأنه من طين وبيننا نحن البشر والبيت الطيني قواسم مشتركة- ولكوني من أبناء وادي دوعن ومن حضرموت فكل بيوتنا من الطين ومازالت، وقد عشت طفولتي فيها وكبرت فيها وتعلمت بين جدرانها ولي انتماء لبيوت الطين مثل المؤلف تماماً الذي وبكل تأكيد قد عاش في تلك البيوت الطينية حيث جاء ذكر البيت الطيني في الرواية أكثر من مرة ومنها مثلا «ثم ما لبث ابن الوجيه وأن فاجأ من يحيط بها وبزواجه بها، بإقامة وليمة عرسه في بيته الطيني الذي ورثه من أبيه الوجيه، وهو بيت ذو تصميم عربي أصيل، وهو البيت الذي حافظ عليه ابن الجزيرة جيلاً بعد جيل» ص(65). وبهذه الرواية يذهب إلى ماضي الأجداد وبيوتهم العريقة التي عرف بها الوطن العربي وخاصة الجزيرة العربية، ولكن مع مرورالزمن لم تقاوم البيوت الطينية في وجه البيوت الإسمنتية التي قست على الإنسان والطبيعة،وبدأت العمارة الإسمنتية ( القصور ) تزحف في أحياء الرياض وتتلاشى أمامها العمارة الطينية خطوة خطوة وتطوي صفحة تاريخية موصولة بالطين والإنسان النجدي. أما ذكره للقصور فتبدو خجولة أو إنها غامضة وهذا الغموض للقصور هي تصوير دقيق للكاتب بسبب الحياة الجديدة وبقصورها الجديدة على المنطقة فجعل الكاتب يدور حواليها -وهي بكل تأكيد جذابة وقد جذبت زوج أم زيد الذي كان يسهر طوال الوقت فيها مما جعل هذا السهر يفرق بينه وبين زوجته أم زيد ويؤدي إلى الطلاق.
فالأستاذ خالد اليوسف يملك لغة سلسة تجبر القارئ أن يكمل روايته لأنها كتبت بروح الكاتب، والكاتب عندما تمتزج روحه بصفحات عمله يبدأ العمل شيقاً متواضعاً غير متكلف فيه،والرواية جزء من تاريخ المملكة وحياة الناس في داخل سوق المقيبرة وخارجه، وهذه الرواية تفتح للقارئ أشياء جديدة لا يعرفها الجيل الجديد عن كفاح المرأة في المملكة وهو كفاح مشرف من أجل لقمة شريفة.
batawil@gmail.com
جدة