كم هو جميل تعبير الرسم بالنور، هو تعبير عن الصورة حيث النور يسقط على الجسم المصور ويمر عبر عدسة الكاميرا على هيئة خطوط أو نقاط، وكلما اقترب الضوء من الخط وابتعد عن النقاط أصبح أكثر وضوحاً وحدة، فتأتي الصورة الثابتة أو المتحركة واضحة أو حادة في وضوحها وملامحها. ولذا فإن ما يطلق عليه مدير التصوير هو الذي يدرك توزيع الضوء على المكان وعلى الأشخاص والأشياء. كلما كان مدير التصوير بارعاً في توزيع النوركلما اقتربت الصورة من شكل اللوحة في تدرجاتها اللونية وعمق ميدانها.
هنا تأتي قيمة الفنان، الشاعر، الروائي، القاص، الرسام، النحات، والسينمائي.
فجميعهم يرسمون بالنور.
في العراق أبواب البنك المركزي مفتوحة،
والحراس نائمون!
الساسة يسرقون المال من المصرف المركزي .. مسموح لهم أحياناً لأنهم ساسة!
واللصوص ينهبون المال من المصرف المركزي .. مسموح لهم بحكم مهنتهم!
ولكن ما هو غير مسموح أن تمتد يد المثقف الذي يرسم الحياة بالنور، أن تمتد يده على المال، المال السائب العرضة للنهب وبنهبه تنمحي بسمة الطفل.
أعلن عن بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2013
وبغداد عاصمة للعراق خزين الثروات الطبيعية والمعدنية.
وطن ميزانيته السنوية مائة وعشرين مليار دولار!
خصص جانب من الميزانية للاحتفاء ببغداد عاصمة للثقافة العربية. خصص للثقافة مال كثير.
نحن الآن في منتصف العام ولا يوجد نشاط ذوقيمة ثقافية تذكر باستثناء معرض الكتاب وأماسيه الثقافية.
تبخر المال من وزارة الثقافة وتبخر المال من مديرياتها، ويوم تعرت الممثلة الألمانية على المسرح وثارت ثائرة المؤسسة الدينية وبالتالي ثائرة المسؤولين، لم تكن تلك الحادثة سوى القشة التي قصمت ظهر البعير! فأموال الثقافة تثير التساؤل بحجمها وهدرها.
في الحدود العراقية الكويتية، وكنت في سيارة مستأجرة، ذهب سائقها لختم أوراق السيارة وبقيت وحدي فاقترب من شباك السيارة صبي جميل، سألني إن كنت أريد نقل حقيبتي من السيارة الكويتية الرقم إلى سيارة عراقية الرقم لكي يساعدني في نقلها فأساعده بالأجر. سألته عن اسمه ذكر لي اسمه. سألته إن كان قد عرف المدرسة أجاب بالسلب. سألته أين يقيم قال على مسافة نصف ساعة من الحدود. سألته عن سبب عمله هذا في نقل الحقائب الثقيلة من سيارة إلى أخرى. قال ليست عندي فرصة عمل غير هذه، سألته ولماذا لا تذهب للمدرسة قال لي، قتل والدي في الحرب، وترك لي أماً وأختاً وبات علي أن أوفر لهم العيش. جاء السائق يحمل أوراق السيارة مختومة وشاهده يتحدث معي فظن أنه يزعجني فأخذه جانبا وأعطاه بضعة دنانير فرفض أخذها. سمعته يقول باللهجة العراقية «لست شحاذاً» وغادر المكان!
وصلت مدينة البصرة ومنها سافرت إلى مدينة النجف المقدسة لزيارة قبور أهلي بعد غياب أكثر من ثلاثين عاماً. وقفت في بداية شارع الرسول، الشارع الذي يوصل بين مركز المدينة ومرقد الإمام علي بن أبي طالب، شاهدت صبياً جميلاً بعمر صبي الحدود ويقف قرب عربة تدفع باليد. جاءت امرأتان بدينتان لا تقويان على المشي. صعدتا في «العربانه» وبدأ الصبي يدفع العربة بيديه وظهره محني. كان يدفع أكثر من مائة وخمسين كيلو غراما من النساء. قررت أن أمشي معه. بدأت أنا أشعر بالتعب ثم بدأ العرق ينضح من جسمي وبدأت ألهث وهو الذي كان يدفع بالعربة. وصلنا إلى مقر ضريح الإمام علي بن أبي طالب. نزلت السيدتان ودفعت كل واحدة ألف دينار عراقي أي ما يعادل نصف دولار تقريبا. سألت الصبي نفس الأسئلة التي وجهتها للصبي الأول على الحدود العراقية الكويتية فأجابني إجابات قريبة من الأول.
إلى أولئك الذين يرسمون بالنور لتصوير واقع العراق، وأنتم تبحثون عن الخلل في المجتمع العراقي وتعرفون بأن لصوص النهار هم المسؤولون عن مأساة أطفال العراق الذين يحملون عبء الحياة بلا طفولة، كيف تذهبون لتشخيص الخلل والخلل فيكم ممثلا بعملية نهب ثروات العراق تحت شعار إنتاج ثقافة عراقية تعبر عن هوية الوطن العراقي. لم يخبرني أحد عن نهب ملايين الدولارات وأنا مسؤول عن كل كلمة أدونها هنا في هذا الملحق الثقافي. لم يخبرني أحد ولم أقرأ الخبر في الصحافة، بل استدعيت كخبير لكي أفحص الملفات السينمائية لبغداد عاصمة الثقافة فأصبت بالرعب الحقيقي.
لقد تم نهب ميزانية بغداد عاصمة الثقافة وبملايين الدولارات ليس من قبل الساسة هذه المرة ولا من قبل اللصوص هذه المرة بل من قبل دعاة الثقافة العراقية حيث اختفى من الساحة أولئك الذين يرسمون بالنور ولم يبق سوى الذين يرسمون بالظلام صورة العراق .. وهو أمر ليس فقط مؤسفا بل ويجعل المواطن يفقد الأمل، حيث الأمل الباقي والشرف الباقي هو من حصة المثقف فكيف إذا خان المثقف وطنه!؟
ماذا يبقى بعد؟!
سينمائي وكاتب مقيم في هولندا - حاليا في العراق - بغداد
k.h.sununu@gmail.com