Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد
09/11/2013

عوض القوزي فقدان تسيل له دمعة القلب

كان الدكتور عوض القوزي -رحمه الله- شخصيَّة تفيض بإحساس الأب في قسمنا على الطلاب والأساتذة والموظفين على حد سواء. وكان لأبوته -رحمه الله- ملامح عديدة أولها الحنان والتعاطف مع الجميع، فأنت حين تجلس إليه أو تحادثه تشعر بعلاقة تمتد بينكما وتشعر بمودة تجاهه مختلجة بالإكبار له وتوقيره. ولن تجد حاجزًا يحول بينك وبين أن «تفضفض» له، فتتحدث عمَّا يهمك أو ما يستعصي حله عليك من أمورك الشخصيَّة أو من أمور عملك الأكاديمي. وحين يتحدث إليك فإنَّ حديثه يرفعك إلى شعور مختلف.. لا أدري هل هي رفعة الروح وسموها، أم هو جلال الحكمة وعمق التجربة والخبرة، أم هو ذاك الوجه المضيء لرجل يناهز الثمانين من العمر!

لم أكد أخطو مرةً من أمام باب مكتبه وهو مفتوح إلا ووجدت بعض الطلاب يجلسون إليه، يقلِّون حينًا ويكثرون حينًا آخر، وفي الحالين تشعر بالمودَّة والاحترام في وجوههم وعيونهم تجاهه. وهو حبيب إليهم وقريب من أفئدتهم، ولذلك فإنّهم يسألونه في أمور تتعلّق بالمقرَّرات التي يدرِّسها لهم، ويسألونه في مسائل اللغة أو في مسائل التراث اللغوي بعامة، ويسألون خارج هذه المقرَّرات وخارج علوم اللغة. وقد يكون سؤالهم شكوى من أستاذ تفنَّن في التضييق عليهم، أو فَهِم أستاذيته بمعنى التحكُّم في طلابه، أو لم يقبل لأحدهم عذرًا، أو فهم فعلاً أو قولاً من آخر فهمًا مجحفًا بالطالب. وهنا فليس للطلاب إلا أبوهم الذي لا يدَّخر أيّ جهد في حلِّ مشكلاتهم والغضب من أجلها.

وأتذكر ولا أنسى، ومن أين لذاكرتي أن تنسى تلك اللحظات الثمينة التي تشاركت فيها معه عليه رحمة الله، العمل في لجنة أو في مهمة من مهام العمل الجامعي؟! ففي إحدى اللجان التي عملنا سويًّا فيها كنت رئيسًا للجنة، وتقدم إلينا أحد طلاب المنح من نيجيريا يبدي رغبته في تغيير أحد أعضاء لجنة مُعيَّنة لامتحانه. وبدا لي أننا إذا استجبنا له فسنفتح بابًا لكل من أراد أن يغيِّر ممتحنيه. لكن فقيدنا غفر الله له، كان له رأي آخر، ووقف في صف الطالب منتصرًا لرغبته، ولا أزال أتصور الجدِّيَّة والانفعال اللذين اختلج بهما كلامه وموقفه في المسألة. وعبثًا كنت أحاول إقناعه، وكان الزميل والزميلة اللذان يشاركاننا في اللجنة، مثلما كنت، نشعر بالإجلال له ولا نملك إلا الاستجابة له!

ولقد ظفرت منه في إحدى الجلسات التي جمعتنا فيها إحدى نزهات القسم الذي اعتاد تنظيمها في استراحات خارج الجامعة، بحكاية طويلة للفتى القوزي وهو يصارع الحياة منذ طفولته وحتى تخرجه من الجامعة. والله كم شدني إلى سيرته، وكم دلَّل لي عبرها عمَّا اعترض سبيله هو وأبناء جيله من المصاعب، وكم قاسوأ من العناء! ولكنه وأمثاله كانوا مثالاً ناصعًا على الإرادة الصلبة والعزيمة النافذة والطموح الذي لا حدود له. ولم يكن -رحمه الله- مدَّعيًا ما لا صدقية له، ولم يكن متجمِّلاً بالزور، أو مخيِّلاً لمستمعيه مثالية فارغة أو بطولة كاذبة وهو يتحدث عن حياته. وهذه الصفات الأخيرة منزلق في حكاية الأشخاص لسيرهم لا ينجو منه إلا القليلون، ولقد كان من هؤلاء فقيدنا القوزي جبر الله مصابنا على فقده.

الدكتور القوزي أستاذ ضليع في العربيَّة، وفي الجوهر الأساس من تكوينها وهو النحو العربي. وهذه الصفة تحيلنا - في العادة - على نموذج أستاذ النحو حين يتكلف التدليل على علمه بمنطوقه من الألفاظ القديمة والغريبة والصوت الخطابي المتحجِّر. والذين يعرفون الدكتور عوض عن قرب يعرفون إنسانًا أليفًا دمثًا ظريفًا ولغته لغة سائغة عذبة لا تشعرك بالجمود ولا التكلف. ولكم مرةٍ التفتُّ إلى نفسي وأنا اتحادث معه فوجدتها متلبِّسة بحديث النحاة في معجمه وأساليبه، اعتقادًا مني أن على أن أجاري النحويين بحسب صورتهم المتخيلة لدي، وما يثير انتباهي إلى ذلك هو المسافة البعيدة التي أفاجأ بها بين حديثي وحديث هذا النحوي المكين الذي يجلس أمامي.

لم يتبوأ أستاذ في العربيَّة في بلادنا - إن لم تخني الذاكرة- المكانة التي تبوأها الدكتور عوض في الوظائف والمناصب العلميَّة والشرفيَّة المُتَّصلة بهذا الحقل العلمي، وأعظم دلائل هذه المكانة ما احتله خارج المملكة لا داخلها. فقد كان الفقيد عضو مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، وعضو مجمعها بالقاهرة، وعضو جمعية لسان العرب بالقاهرة، وعضو المجلس العالمي للغة العربيَّة بلبنان... الخ. وقد لقيته في إحدى العطلات الصيفية القريبة مسافرًا بمفرده إلى إندونيسيا لإلقاء محاضرات وتقويم أبحاث لدارسي العربيَّة ومدرسيها هناك ولمدة تصل شهرًا. وكان ذلك مدهشًا لي بالطبع، فها هو في هذا السن المتقدمة، شغوف بالعمل ومقبل عليه وحفي بالمشقة في سبيله!

أما إنتاجه العلمي فثروة من الكتب المؤلِّفة والمحققة والشارحة، وقد حظي «المصطلح النحوي» باهتمامه، فألف كتابًا يتحدث فيه عن نشأته وتطوره حتَّى أواخر القرن الثالث الهجري. وأحسب أن اهتمامًا من هذا القبيل في مجال التف كير المتجه إلى اللغة في التراث العربي الإسلامي، ليمثِّل جهدًا معرفيًّا وثقافيًّا لا يستهان به. وقد حقَّق -رحمه الله- كتاب «ما يحتمل الشعر من الضرورة» للسيرافي، وكتاب «التعليقة على كتاب سيبويه» للفارسي، و»معاني القراءات» لأبي منصور الأزهري. لكن المشروع الذي ظفر باهتمام لا مثيل له في حياة الدكتور عوض، هو تحقيقه «شرح كتاب سيبويه» لأبي سعيد السيرافي، وهو يربو على عشرين مجلدًا، وقد أنجز منه قبل وفاته ما لا يقل عن خمسة عشر جزءًا. ويبدو أن إكمال هذا الجهد معقود على أحد زملائه أو أحد النابهين من طلاب الدراسات العليا، وهو جهد لن يكتمل من دون إعداد الكتاب للنشر والإشراف على طباعته حتَّى يخرج بدقة وإتقان يوازيان ما بذل فيه من جهد.

كان مصابنا في الدكتور فاجعًا، وإنها لفجيعة قاسية يعرفها حق المعرفة من أحبِّه وعرفه عن قرب، ولذلك فليس أحد من الذكور والإناث في قسم اللغة العربيَّة بجامعة الملك سعود لم يصعقه خبر الحادث، ثمَّ خبر الوفاة. وقد كنت في آخر أيام العمل حريصًا على إرسال بعض بحوث مجلة كلية الآداب إلى المحكمين قبل حلول إجازة العيد، فأرسلت إليه ما كان معينًا لتحكيمه، وبعد أيام جاءني الرد منه معتذرًا بسبب سفره وخشيته من التأخر في الرد. وقد عدت عند سماعي خبر الحادث إلى قراءة الرسالة من دون وعي، يا إلهي! يا للقدر النافذ! آمنت ربي بأنك حق، وأن الموت حق، والحياة ما شاء الله! فليرحم الله فقيدنا العزيز، وليقبل أهله وإخوته وأبناءه الذين هم أهلنا وإخوتنا وأبناؤنا صادق العزاء والمواساة. والله المستعان.

- الرياض