Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد
09/11/2013

(إجازة) الرسائل العلمية (3)

وما زال الحديث في سياق الأسباب التي أدت وتؤدي إلى ضعف المناقشات العلمية، فقد يكون الضعف العلمي الذي يعاني منه المشرف على الرسالة أو المناقشون من أسباب هذا الضعف، وهو ما يقودني إلى التنبيه على إشكاليةٍ مهمةٍ يعاني منها بعض الأكاديميين، وهي اعتقاده أنه بحصوله على الدكتوراه يكون قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه حاذق بكلِّ شأنٍ من شؤون تخصصه، فلا يقرأ ولا يزيد من رصيد ثقافته التخصصية، فيتكاسل وينشغل بأمورٍ إداريةٍ داخل المؤسسة التعليمية أو بأمورٍ اجتماعيةٍ خارجها، ويكون آخر عهده بالبحث العلمي رسالته الدكتوراه أو بحوث الترقية المحدودة، وتمضي السنوات وتتطوَّر التخصصات وهو لا يزال على (علمه) القديم، يتقادم ولا يتقدَّم، حتى إذا كُلِّف بإشرافٍ أو مناقشةٍ لا يجد في رصيده المعرفي والثقافي ما يؤهله لتقويمٍ أو توجيه، فيتعب ويُتعِب الطالب معه، ويظلُّ كل ذلك مستوراً حتى إذا حضرت المناقشة تبيَّن ضعفه، وانكشفت سطحية معلوماته، واتضح أقدميتها، فإن كان مشرفاً فالغالب أنَّ الرسالة ستكون ضعيفة، وإن كان مناقشاً أجاز رسالةً مثله في الضعف.

ومن الأسباب كذلك الاعتقاد بأنَّ المناقشة مُوجَّهةٌ للمشرف لا للطالب، والظنُّ أنَّ المناقش حين يُبيِّن الإخفاقات العلمية والمخالفات المنهجية في الرسالة يخاطب المشرف في المقام الأول؛ ولذا تجد في كثيرٍ من المناقشات أنَّ دور الطالب صاحب البحث يكاد يكون معدوما، وكأنه دميةٌ أُتي بها لسدِّ الفراغ ليس إلا، فتراه يتلفَّت يميناً وشمالاً وكأنَّ الرسالة لا تخصُّه على فرض أنها تخصُّه أصلا، ويشرع المشرف منذ بدء المناقشة بالردِّ على تساؤلات المناقشين، ومحاولة الدفاع عن الرسالة، والمنافحة عنها بكلِّ ما أوتي من قوة، ظنَّاً منه أنَّ نتيجة المناقشة ستؤثِّر في مكانته العلمية، حيث تكون إجازتها شهادةً له بالتفوُّق والحذق، وردُّها أو طلب تعديلٍ فيها بمثابة قدحٍ في علميته وتشكيكٍ في قدرته على الإشراف، وهو ما يقودني إلى موضوعٍ آخر وهو الدور الذي ينبغي أن يقوم به المشرف في أثناء إعداد الطالب للرسالة، وهو موضوعٌ يجب أن يُفرد له سياقٌ خاص.

ومن الأسباب التي تسهم في ضعف المناقشات العلمية وتؤدِّي إلى إجازة رسائل لا تستحق الإجازة الاعتقاد بأنَّ التساهل في المناقشة والتغاضي عن الأخطاء سمة المناقش العادل الذي لا يحمل ضغينةً للمشرف ولا حقداً على الطالب، أو هو الذي لا يكبِّر الأخطاء ويعطيها أكبر من حجمها، بينما الذي يتوقَّف عند هذه الأخطاء، ويناقش الطالب فيها، ويحاول توجيهه ما هو إلا شخصٌ مُتشدِّد، يبحث عن المثالية، ويتقصَّد تضخيم الأمور والنظر بعينٍ واحدة، أو ربما يكون تشدُّده هذا تصفية حسابات بينه وبين المناقش أو الطالب، والمصيبة هي حين يؤمن بعض المناقشين بهذه الخزعبلات، فيحاول أحدهم أن يتقمَّص ثوب العادل، ويتساهل في المناقشة، وعند تداول الرأي يوزِّع الدرجات كيفما اتفق، ويمنح الرسالة امتيازاتٍ لا تستحقُّ شيئاً منها، والمصيبة الأخرى حين تسود هذه النظرة في القسم العلمي، ويميل رئيسه والأعضاء إلى إسناد مناقشة الرسائل إلى هؤلاء المتساهلين، وتجنُّب غيرهم ممن يرونهم مُتشدِّدين! فتظهر المناقشات العلمية أشبه بمسرحيات هزلية، تجيز رسائل ليس بينها وبين أقل مراتب الجودة أدنى نسب!

ومن الأسباب التي أسهمت في ضعف المناقشات إسناد إشراف الرسائل العلمية إلى أساتذة غير متخصصين تخصصاً دقيقاً في موضوعها، أو تكليف هؤلاء بمناقشتها وتقويمها، وقديماً قيل: (فاقد الشيء لا يعطيه)، وما لم يكن تخصُّص المشرف أو المناقش قريباً جداً من موضوع الرسالة فإنَّ أثره فيها سيكون ضعيفاً للغاية، وأعي تماماً أنَّ مثل هذه الإجراءات قد يحكمها أمورٌ إداريةٌ ونظاميةٌ؛ كأن يكون نصاب الأستاذ المتخصص في الرسالة لا يسمح له بالإشراف عليها أو مناقشتها، غير أنه أحياناً لا يكون الأمر كذلك، وإنما تبعاً لأهواء شخصية أو علاقات اجتماعية أو غيرها من المجاملات التي لا تخدم البحث العلمي، وأسهمت في تشويه صورة المناقشة العلمية، وتسببت في وصولها إلى هذه الدرجة من الضعف والهزال!

***

إنَّ الحديث عن إجازة الرسائل العلمية حديثٌ ذو شجون، وما لم يعِ الأكاديميون أبعاد هذه الإشكالية، ويبتعدوا عن أسباب ظهور المناقشات العلمية بهذه الصورة المخجلة، مما يؤدي إلى ظهور رسائل تحصل على درجاتٍ عاليةٍ وتقديراتٍ مرتفعةٍ وهي في الحقيقة غايةٌ في الضعف والرداءة، فإنَّ الوضع سيتفاقم، وسيصبح البحث العلمي وإعداد الرسائل عمل مَنْ لا عمل له، وسيزيد الاستهتار بهذه المناقشات، والأدهى من ذلك أنَّ استمرار هذا الوضع سيجعل الرسائل الجادة الرصينة متساويةً مع الضعيفة الرديئة، وسيُغمط حقُّ مَنْ تعب وسهر الليالي وبذل ا لجهد والوقت والمال لتظهر رسالته بصورة تليق بالباحث الجادِّ المتميز، ثم إنَّ استمرار ضعف المناقشات سيجعل الطالب يستخسر وقته وجهده في تجويد رسالته؛ لأنه يدرك تماماً أنَّ رسالته ورسالة زميله (الأفدغ) ستحصلان على تقديرٍ واحد، إن لم يكن زميله أفضل منه، وهو ما يتسبَّب في التهاون في البحث والتكاسل في إعداد الرسالة، فالمناقشة أضحت -كما ردَّدتُ سابقا- مجرَّد إجراءٍ إداريٍّ لا أكثر للحصول على الدرجة العلمية.

-الرياض omar1401@gmail.com