Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
(سور الطين العظيم)!
فيصل أكرم

 

مضى زمنٌ لم أحضر فيه عرضاً مسرحياً، لا محلياً ولا عربياً، ففي الدول العربية المتفوّقة في الفن المسرحيّ لم تغلق المسارح فحسب، بل صار السفر سياحة إليها مغامرة غير مجدية منذ اندلاع ما يسمونه (الربيع العربي) وأسميه (التقطيع العربي) فكل دولة من الدول التي اعتدنا شدَّ الرحال إليها كلما ضاقت صدورنا واشتقنا إلى أصدقاء ما زالوا ينتظروننا فيها أصبحت مقطعة، فأنظمتها مقطعة، وشوارعها مقطعة، والطرقات بين مدنها مقطعة، وقد يتم تقطيع أجساد رؤسائها في مشهدٍ مسرحيّ ليس بجديد..

على كل حال، فمشاهدة (المسرحيات) مباشرة إحدى هواياتي، غير أنني لم أحضر من المسرحيات المحلية سوى القليل منها، تلك التي تعرض في فترة الأعياد، وعادة ما ألبّي دعوة الأصدقاء من الفنانين وأحضر لأشاهد ما يقدمونه بكل محبة واستمتاع، وأنا أضع ببالي أن العرض هو عرضٌ مناسباتيّ ضمن فعاليات احتفالات مدينة الرياض بعيد الفطر أو الأضحى، وليس عرضاً فنياً يصنع مناسبته ويكون هو الحدث، كما يجب أن تكون الفنون. لذا حين فوجئت الأسبوع الماضي بلافتة قماشية مشدودة على جسر مخرج 14 في الطريق الدائري، وعليها عنوان (سور الطين العظيم) كانت التفاتتي سريعة، فأنا منذ الأزل يثيرني كل موضوع يحاكي أسطورة البناء البشريّ الأول والأصلب (سور الصين العظيم) حتى أنني حرصت سابقاً على مشاهدة الفيلم المصري الكوميدي (فول الصين العظيم!) للسبب نفسه، فأصررت على تخفيف سرعتي لأتمكن من قراءة زمان ومكان عرض المسرحية، حتى كادت سيارتي (الكاديلاك) أن تركب الرصيف (!) وبعد مغامرة التباطؤ لقراءة الحروف التي يهزّها الهواء ويتخللها الغبار وزخات المطر، على الطريق السريع، استطعتُ تدوين موعد عرض المسرحية، في التاسعة من مساءات الأربعاء والخميس والجمعة من الأسبوع الماضي، على مسرح مركز الملك فهد الثقافي بالرياض؛ فعزمتُ نفسي على حضور عرض الخميس تجنباً للعرضين الأول والأخير اللذين توقعتُ أن يكون الازدحام فيهما فقط..

كانت هذه أول مسرحية محلية أحضرها برغبة مني وبدون دعوة من أحد، والحقيقة أنني فوجئتُ بالحضور المبهج للجمهور، أعداد تتجاوز بكثير تلك الأعداد القليلة التي كنتُ أراها في مسرحيات الأعياد، ومع أنني وصلتُ بعد رفع الستار بعشر دقائق تقريباً إلا أن العرض الذي استمر لساعة ونصف كان ممتعاً وفيه من أجواء المسرح الحقيقيّ بعضها.. بالطبع ليس كلها، وإن كان ذلك ليس بمستحيل مع التقنية الحديثة ولكنه غير مستحب لدينا حتى اللحظة ربما (!) وكان الممثلون متقنين لأدوارهم بصراحة، وفكرة المسرحية كانت جيدة وإن لم تكن جديدة، فقد استهلك الكوميديون فكرة المحطات الفضائية التجارية منذ نشوئها، وكان بإمكان المؤلف أن يتناولها بأبعاد أكثر لحظية من تلك التي رأيناها وكأنها للتو تظهر الفضائيات واسم (هيفاء وهبي) الذي تكرر بلا مناسبة ولا حتى إيحاء غير عاديّ!

ما أغاظني في العرض كله هو أنني خرجتُ منه دون أن أعرف أو أرى أو أسمع أي شيء عن (سور الطين العظيم) الذي حضرتُ لأجله (!) ربما كنتُ أشرد بتفكيري للحظات، أو ربما الدقائق التي فاتتني من أول المسرحية كان فيها ما يشي بفكرة العنوان؛ وعلى كل حال فالمسرحية أستطيع أن أصفها بأنها من أفضل المسرحيات المحلية التي عرضت مؤخراً، وهي مع قليل من المسرحيات المحلية في السنوات القليلة الماضية كانت تستحق المشاهدة والحضور (أذكر منها: المال الحلال، والحقيقة عارية) ولكنها - برأيي - لم تصل إلى مستوى المسرحيات المحلية القديمة التي جعلتنا نضع لها مكاناً في الذاكرة، برغم أن أكثرنا لم يشاهدها إلاّ على شاشة التلفزيون (مثل: تحت الكراسي، وعويس التاسع عشر) وغيرهما من المسرحيات المحلية التي لم تتوفر لها التقنية المتوفرة الآن، ومع ذلك حلّقت بأبطالها ليصبحوا نجوماً بعدها.

مسرحية (سور الطين العظيم) لا أستطيع أن أقول عنها سوى أنها جيدة، وتوقيتها يجعل منها عملاً فنياً يفرض نفسه ولا تفرضه المناسبة، ومؤلفها مشعل الرشيد محترف كتابة للمسرح، وأبطالها (لورانس، ومحسن الشهري، وسامي حازم، ومخرجها عليان العمري) موهوبون على خشبة المسرح، ويبدو عليهم طموحٌ لتقديم الأجمل دون شكّ، غير أنني بكل صراحة أقول: كان عنوان المسرحية - بالنسبة لي على الأقل - هو البطل!

ما أود أن أطرحه بهذا الصدد، هو: طالما أن الحضور الجماهيري كان بالمئات، فلماذا لا يكون العرض ممتداً طيلة العام بواقع يومين كل أسبوع (خميس وجمعة) ويكون الدخول بتذاكر ولو رمزية مبدئياً، ثم تتضاعف مع تضاعف الجمهور الذي سيعتاد على المسرح ويضعه في جدوله الأسبوعيّ، مما يجعل من الفن المسرحي حرفة يتنافس فيها المبدعون بدلاً من بقائه عبئاً على أمانة مدينة الرياض وغيرها من الجهات الراعية لمثل هذه الفعاليات التي تقدم للجمهور مجاناً، والمجانية هنا ليست كمجانية الأمسيات الشعرية أو الندوات الفكرية مثلاً، فالشاعر أو المثقف يقدم نتاجه بالطريقة التي تحفظ له حقوقه كافة قبل كل شيء، ثم يطرحه للجمهور كنوع من التواصل لا أكثر، على عكس الأعمال المسرحية التي يجتهد أهلها في كتابة الفكرة ثم السيناريو والحوار ثم الديكور والإخراج والبروفات وغير ذلك من تجهيزات والتزامات شاقة ومكلفة تتشكل منها مقومات العمل المسرحي الذي يأخذ من طاقمه زمناً ليس قصيراً، ليأتي الجمهور بعد ذلك كله – وبالمجان! - يأخذ كل شيء في ساعة العرض وساحته، ثم ينتهي كل شيء!

لو أن مثل هذه المسرحيات، التي ظهرت واختفت ولا تزال تظهر وتختفي، يتم تصويرها بإخراج تلفزيونيّ كما كان في المسرحيات القديمة، لاستطعنا أن نقول إن مجانيتها جزء من تلفزتها، ولكنها على هذا النحو السائد الآن لن تصل إلى أيّ مكان. وعلّة عدم إمكان مشاركة العنصر النسائيّ في التمثيل لا أراها تشكّل أيّ عائق أو معضلة، طالما أن الجمهور يقبل على الحضور، كما شاهدتُ بعيني الخميس الماضي..

ختاماً، أقولُ جازماً: لن يتطوّر لنا مسرحٌ مهما اجتهد القائمون عليه، إلاّ إذا اتخذ الشكلَ الاحترافيّ المؤسساتيّ التجاريّ.. خارج الأطر الرسمية.

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة