Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
جبير المليحان: سيرة وكتابة
علي الدميني

 

1- سيرة

لا يني أي نص إبداعي متميز عن فتح أبواب جمالياته، وشعرية سياق جنسه، وما فتئ منشئه مشغولاً بتطوير تلك الأبواب، وتعميق تجليات ذلك السياق.

والقاص جبير المليحان واحد من تلك الأسماء المهمومة - بصمت - بهذا الصنيع المختلف، في كل أعماله.

منذ عام 1970م كان يرسل كتاباته القصصية المبكرة إلى مجلة اليمامة، ولكن الأستاذ علوي الصافي، كان يغفلها، وحين ضجّ من تواصل إرسالياتها إليه، كتب كلمة قصيرة في بريد القراء إلى جبير، أشار فيها إلى عدم صلاحية تلك القصص للنشر، رغم أن خط كتابتها جميل جداً!

كان يمكن لتلك الرسالة أن تكسر موهبة القاص المبكرة، ولكن نبتة الموهبة الكامنة في وجدانه نبّهته إلى الإنصات لدلالة تلك العبارة، ليلاحظ أن الحكاية العارية لوحدها، والفكرة المجردة بحد ذاتها، لا تنجزان سردية قصصية لافتة، وإنما لا بد من الاشتغال المعمّق على جماليات تحويلها إلى فن!

نعم ذلك ما يحتاجه المبدع المهموم بتطوير أدواته، ولكن كيف؟

مكتباتنا كانت تعاني من تصحر ثقافي مدقع، وساحتنا الأدبية ملتفة بعباءتها المحافظة حتى الرأس، ولم يكن في منجز رواد كتاب القصة القصيرة في المملكة من أحمد رضا حوحو حتى إبراهيم الناصر وعبد الله الجفري، وأقرانهما، ما يغري بتطوير الرؤية الإبداعية ولا باحتذاء النمط، عدا عن كون ذلك النتاج غائباً عن مكتباتنا الفقيرة.

لم يكن جبير قد تعرّف على «موباسان»، ولا جوجول، ولا دستوفسكي، ولا إدجار ألن بو، حين كان منهمكاً في تدريس المحفوظات وقواعد اللغة في مدرسة حسان بن ثابت الابتدائية بالدمام، أما كتّاب القصة القصيرة الحديثة من بني عمومتنا وشركائنا في لغة الضاد، من أمثال محمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ، حتى يوسف إدريس وزكريا تامر فيما بعد، فلم يكونوا يقطنون مكتباتنا ولا فضاءنا الثقافي، حيث لم تحتف صفحاتنا الأدبية إلا فيما ندر - في تلك المرحلة - بأي إبداع جديد (محلي أو عربي أو مترجم) يغري باستلهام التجربة وتحفيز الموهبة لكاتب متشوف لخلق فني مختلف!

ولكن الطموح يصنع الصُّدف، والصُّدف تفتح أبواب الممكن والمستحيل، فقادته الخطى، بدعوة من مدير مدرسته، صدّيق جمال الليل- الذي كان يعمل محرراً رياضياً متعاوناً مع جريدة اليوم- إلى هناك حيث عمل مصححاً ثم كاتباً صحفياً متعاوناً لسنوات عديدة.

وفي الجريدة كانت وجوه الزملاء/ الأصدقاء تتعدد بسحنات مختلفة، ومشارب متنوعة، وبأنهار صغيرة متجددة، وفي ذلك الفضاء الحميم، إما أن تصير صديقاً فتألف المجموعة وتستمر، أو تكون غريباً فتغادر!

كانت الدائرة تتسع، وفيها خليل الفزيع، ومحمد العلي، ومحمد القيسي، وعبد الكريم حسين (شاعران فلسطينيان)، ومحمد رضا نصر الله، ومحمد الصويغ، وشاكر الشيخ، وإبراهيم الغدير، وأسماء أخرى أتت فيما بعد منهم كاتب السطور، ثم حسن سعيد النجعي وعبد العزيز مشري.

لقد غدا الكتاب محور الصداقة، والإبداع سيد المكان، أما الرؤية المشتركة فقد بقيت رهينة لاحتمالات مطر الغد!، وكان جبير يُنضج مائدة الكتابة على نار هادئة، أفاد فيها من المناخ الشعري المتسيّد لحلقة الأصدقاء، حيث كانوا يقرأون ويتبادلون قصائد وبعض دواوين السياب ومحمود درويش وسعدي يوسف والبياتي وحجازي وصلاح عبدالصبور، والماغوط، وأدونيس، ومترجمات أشعار بابلو نيرودا، وناظم حكمت وأمثالهم، حتى كتب العديد من القصائد التي نشرت لاحقاً في «المربد». ولكن تركيزه الأساس كان منصبّاً على القصة القصيرة، التي حضرت بقوة في دائرة الأصدقاء، حيث تعرفنا معه على مجموعات قصصية تؤسس لكتابة جديدة، لدى يوسف إدريس وجمال الغيطاني، وزكريا تامر، ويحيى الطاهر عبدالله. أما في مجلة الآداب (التي وجدت أعداد كثيرة منها لدى الشاعر محمد القيسي) فقد كان الباب أكثر غنى وثراءً للتنوع حين استمتعنا بقصص مجيد طوبيا وحيدر حيدر ومحمد خضير، وأمين صالح، وغيرهم من كتاب تلك المرحلة، الذين كانوا يؤسسون لذائقة مختلفة وحساسية جديدة، بحسب مصطلح إدوارد الخراط.

كان جبير يقرأ بنهمِ عيونٍ كثيرة: عين المتعة، وعين التعرف... عين الإفادة وعين الهضم... عين المحاكاة وعين التجاوز، وأتذكر أنه حين كان يقرأ ثلاثية سارتر «دروب الحرية» يداخله جنون الافتتان بها، فيصرخ من سطوة العبارات وجمالياتها الآسرة، التي برع سارتر في صياغتها، فيردد عبارته «كانت القضية حزناً بائساً وصغيراً» حتى صارت إحدى الأيقونات التي أشاعها بيننا ومضينا لاستخدامها في حواراتنا البائسة والصغيرة أيضاً!

وفي هذا المناخ، جرّب كتابة القصة الحداثية التي انزاحت عن تراث القصة النموذجية عند «موباسان» وتياره التاريخي العريض، وذلك عبر تفتيت العلاقة الطردية ما بين نمو الحدث وحبكة النص على امتداد مسيرة الزمن، وانتقال بؤرة كاميرا التعبير عن وحدة الأثر الفني في القصة من تمركزها على تصوير الواقع الخارجي، إلى ما يقترب من غنائية الشعر في انهمامه بتصوير تشكلات الوجدان الداخلي للمبدع.

وقد فاجأني في أوائل عام 1973م بنص قصصي مدهش أسماه «ترقص الأفعى طويلاً.. ثم تسقط».

قرأته أكثر من مرة، وقلت له: لا استطيع احتمال كل هذا الجمال لوحدي، فدعنا نذهب إلى الأستاذ محمد العلي في بيته ليشاركنا متعة هذه اللحظة.

مضينا إلى دار العلي بعيد صلاة العشاء، ولكننا وجدناه يتهيأ للركض في الشوارع المحيطة ببيته، فعقدت بينهما سباقاً، فاجأنا فيه استأذنا بفوزه على الشباب!

دخلنا الدار، وقرأ جبير نصه، وقرأت قصيدتي «قصيدة حب لفتاة غامدية»، فأعجب بهما، وقال : يا جبير..هذا النص يتجاوز كل تجريبك السابق، حيث أرى أنك قد أفدت كثيراً من قراءتك السردية الجديدة، وأعتقد أنك قد استفدت من «سارتر» رؤيا وتشكيلاً أكثر مما أفدت منه أنا، رغم قراءاتي للكثير من كتاباته!

هذه القصة نشرناها في ملحق أدبي خاص لجريدة اليوم بمناسبة عيد الفطر لعام 1394هـ، ولكن القاص فقده فلم يضمّنه في مجموعاته القصصية الثلاث، وقد وعدته بالبحث عنه في أرشيفي الخاص أو في أرشيف الجريدة، إن كان ما زال محتفظاً ببهاء تلك الأيام القديمة!

كان اهتمام جبير بكتابة القصة القصيرة قد بدأ مبكراً، منذ أن كان طالباً في المرحلة المتوسطة، وقد نشر أولى قصصه التي تعود إلى تلك المرحلة في الصفحة الأدبية التي كان يشرف عليها الأستاذ محمد العلي في جريدة اليوم، في عام 1970م، واستمر منذ ذلك الزمن في كتابة القصة، والاحتفاظ بها أو نشرها في الصحف والمجلات، طيلة أكثر من 38 عاماً، دون أن يلتفت إلى ضرورة جمعها وطبعها في مجموعات قصصية.

ويمكننا القول بأن تعددية اهتمامات جبير الحياتية والثقافية في عمله كمعلم وكإداري وتربوي، وفي مجال الصحافة كمحرر وككاتب لعمود صحفي وكإداري، وفي اهتمامه بالفن التشكيلي، وفي انشغاله لفترة طويلة بالهم الثقافي والشأن العام، وفي ممارسة العمل الإداري الثقافي حين عمل رئيساً للنادي الأدبي بالشرقية، ومشرفاً يومياً على موقع أدبي إلكتروني عن القصة القصيرة لأكثر من عقد من الزمن، قد عملت على إغناء رؤيته الفكرية وأشكال تعبيرها الفني، في كتابة القصة القصيرة، إلا أن تلك المهام وسواها من عوامل الرقابة الاجتماعية والأدبية، قد أشغلته أو أعاقته عن التفكير في إصدار مجموعاته القصصية في وقتها، مما أدى إلى غياب حضور فاعلية تأثير نصوصه في الوسط الأدبي، وإلى قلة اهتمام النقاد بها، ولذلك يمكن أن نعده واحداً من أبرز مبدعي الظلّ، بحسب تسمية الناقد البحريني د. علوي الهاشمي، التي أطلقها على الشعراء الذين لم ينشروا مجاميعهم الإبداعية. ولم ينكسر هذا السكون الطويل في الظل، والعزوف عن النشر إلا حين طلبت منه إدارة العلاقات العامة في شركة «أرامكو» مجموعة من قصصه المكتوبة للأطفال، لكي تصدرها في مجموعة مستقلة بعنوان «الهدية... وقصص أخرى» في عام 2004م، وتم توزيعها على المكتبات العامة والمدارس. ولعل ردود الفعل الإيجابية من القراء على هذه التجربة، قد عملت على إخراجه من قوقعة الزهد إلى فضاء التواصل الإبداعي الأوسع، فقام بجمع قصصه التي كتبها خلال تلك المرحلة الطويلة، ونشرها تباعاً في مجموعات هي: «الوجه الذي من ماء» وصدرت عن النادي الأدبي بحائل في عام 2008م، و»قصص صغيرة» صدرت عن النادي الأدبي بالجوف في عام 2009م، ومجموعته الأخيرة بعنوان «ج ي م»، الصادرة عن دار «أثر» في عام 2012م.

2- كتابة

ليس من اليسير على قارئ مجموعات جبير المليحان القصصية أن يقف على مراحل التطور أو التحول في مكونات الرؤية ولا في أشكال إبداعها الفني، وفق صيرورتها الزمنية، لأن القاص قد نشرها بعد أن اكتملت بين يديه، وفق خيارات فنية ارتآها لكل مجموعة على حدة، دون أن يعمد إلى نشرها بحسب تواريخ كتابتها، فنرى أن مجموعته الأولى «الوجه الذي من ماء» قد حوت قصصاً امتدت كتابتها منذ عام 1975م «الوجه الذي من ماء»، وعام 1976م «الماء.. الماء.. الماء»، إلى بعض النصوص التي كتبت عام 2002م، فيما انطوت مجموعته الأخيرة «ج ي م» على نصوص كتبت أيضاً منذ منتصف السبعينيات «الرقصة والأطفال يلعبون»، إلى «الدلوبج» في عام 2011م، في حين أن مجموعته «قصص صغيرة» قد تضمنت قصصاً نشرت في عام 1976م «الطفل يريده اللون الأبيض» وقصصاً أخرى أنجز بعضها في عام 2008، مثل «ذاكرة»، أما القصص الموجهة للأطفال، فقد بدأها بنصٍ نشره في مجموعته الأولى مؤرخ في 29-9-1998م، بعنوان «الصديقان»، غير أن المجموعة الخاصة بقصص الأطفال لم تحدد تواريخ كتابتها، مما يشير إلى أنه أبدعها في أزمنة مختلفة.

وكل هذا يعيننا على القول بأن مجموعاته القصصية تعبّر عن نسيج مترابط من السرد، رؤية وتشكيلاً، حتى وإن تمايزت قضاياه وآفاق تعبيره، وأنها قد انحازت منذ البدء إلى سلك طريق حداثتها بتعمّد القطيعة مع الشكل التقليدي ابتداءً، ثم بتجاوز النموذج القصصي الأكمل الذي فرض حضوره طويلاً عبر تجربة «موباسان» وقوقول في كثير من بلدان العالم، وفي العالم العربي، عبر أبرز كتابها أمثال محمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ وعشرات غيرهم، كما أنه يؤكد ذلك أيضاً بالتركيز على فاعلية شعرية القصة، في جلّ أعماله.

وقد تأثر المليحان في مرحلة البدايات من تجربة حداثة القصة التي أنتجها قصاصون عرب متأثرين بمدارس أدبية جديدة في العالم. وبالرغم من طغيان الشعور القومي والعروبي في تلك المرحلة على رؤية المبدعين في الشعر والقصة، إلا أن جبير احتفظ باشتعالاتها وقسوتها في وجدانه الثقافي، فيما نأى بمسيرته الإبداعية عن الانفعال المباشر بها أو استحضارها في نصه، وكأنما يرى آن مهمة الإبداع تكمن في ابتعاده عن استلهام الحدث السياسي والتركيز على الإنصات إلى أعماق دلالاته وتجلياته التي يرصدها في الواقع اليومي وعبر تصوير المشاعر المسحوقة للفرد والجماعة على السواء.

ولذلك مضى في مراحله الأولى في اختطاط شكل فني قصصي مختلف (القصة - القصيدة)، يعمل على تجاوز نمطية الأنموذج السائد صوب تجريب البدائل المفتوحة، والتي كان من أبرز تحولاتها أن تم تقليص هيمنة الحدث على القصة، والعمل على إحلال العالم الداخلي بديلاً لسطوة حضور العالم الخارجي، حيث يغدو التعبير عنه هو الحدث والشخصية، وبذلك يقترب السرد من عالم الشعر، أو يدخل من بوابة الشعر لكتابة خطابه السردي.

لكل ذلك، لن أتحدث عن السمات العامة لكل مجموعة على حدة، نظراً لتداخل الأشكال وأزمنة الكتابة في نسيجها، وسأتكئ على التشكيل الفني لمقاربة بعض نماذج من هذه المجموعات، التي يبدعها تحت مظلة «شعرية القصة»، وفق المحاور التالية:

- «الأطفال والماء: الرمز والتشكيل»،

- «مكونات الذاكرة ومقاربات اليومي»،

- «شعرية القصة» والذي سيكون في ثلاثة أقسام هي:

- (القصة- القصيدة)

- القصة الصغيرة

- الكتابة للطفل.

الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة