Saturday 07/12/2013 Issue 420 السبت 3 ,صفر 1435 العدد

من يراقب من في الصحافة السعودية؟ (2-4)

تقديم المترجم: كنت أتوقع أن تعتذر صحيفة الجزيرة عن نشر الحلقة الأولى من هذا التقرير الهام. ولكنني بصراحة فوجئت بنشره وهذا يدل على أن سقف الحرية عال بفضل سعادة رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك وسعادة رئيس تحرير المجلة الثقافية الدكتور إبراهيم التركي العمرو. وطبعا الأمور نسبية، وكنت قد أعددت مادة بديلة في حالة عدم النشر، ولكن ها نحن نواصل مع الحلقة الثانية من فصل (من يراقب من؟) المقتبس من كتاب (تعرية العربية السعودية) (بالغريف ماكميلان للنشر، 2005، 240 ص) للصحافي الإنكليزي جون برادلي:

6 ـ ماذا تحتاج الصحافة

السعودية لتتطور؟

وفي النهاية إذاً، الحريات الوحيدة التي قد تمنح للصحافيين في السعودية هي تلك الحريات التي سيقاتل من أجل الحصول عليها رؤساء التحرير نيابة عنهم. وكما يعترف معظم الصحافيين السعوديين: الصحافة السعودية تحتاج شيئا واحد قبل أي حريات وهو رؤساء تحرير جريئين وشجعان!

ولكن البعض، مع هذا، لا يزال في مرحلة الإنكار (Denial) فقد أكد لي رئيس تحرير جريدة يومية مهمة قابلته في أمريكا: (أصحاب المناصب العليا في الحكومة بدأوا يتجاوبون لما تنشره الصحافة السعودية). وهو يعتقد أن الصحافة السعودية بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، وصلت لما أسماه قمة (ربيع براغ) (Prague Spring) في إشارة إلى فترة الانتفاضة الليبرالية القصيرة جداً في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية سابقاً والتي أدت إلى تدخل الجيش السوفياتي الأحمر لكبحها وإعادة الحكم الشيوعي للبلد في 1968. وأضاف بزهو: (نحن فخورون أن العديد من القضايا التي طرحناها بعد الهجمات تقبلتها وعالجتها الحكومة لا بل أُدخل بعضها في الأنظمة الحكومية) ولكنه لم يعطني أية أمثلة على ذلك الزعم. ولذلك فهو إما كان يقوم بتضليلي بنفسه تلك الليلة، أو كان يبالغ متعمداً أمامي، لأنه، على الرغم من كل هذه الإدعاءات، أُعفي من منصبه بعد سنة!

(7) حادثة فصل رئيس تحرير

بعد نشر إحدى الصحف في آذار/مارس 2002، قصيدة نقدية حارقة لرجال القضاء احتلت صفحة كاملة، صدر قرار فوري بفصل رئيس التحرير.

(8) تعليق أهم كاتب سعودي على فصل رئيس تحرير

يعتبر الكثيرون عبد الله ناصر الفوزان، أهم كاتب سعودي ومن المؤكد أنه صاحب شعبية كبيرة، وعلق الفوزان على تعتيم الصحافة ممثلة برؤساء التحرير على خبر فصل زميلهم قائلاً في جريدة الوطن: (عدم مناقشة خبر فصل رئيس التحرير) يثبت أن صحافتنا أسيرة لضعفها الذاتي).

(9) إدريس الدريس: صحافي مهني

إدريس الدريس جنتلمان في الستين وهو صحافي مخضرم ومحترم من قبل زملائه ويتفق تماماً مع كل ما سبق أن ذكرته. الدريس صحافي فريد من نوعه بالنسبة إلى زملائه من حيث مهنيته المتميزة. وهذا في الغالب السبب الذي لم يجعله يحتل منصب رئيس تحرير بالرغم من أهليته الواضحة له وخبراته الكبيرة المتراكمة، حيث وصل فقط لمنصب نائب رئيس تحرير جريدة الجزيرة بالرياض.

وفي حوار خاص معه في 2002 بالرياض، روى لي حكاية عجيبة: ففي وقت سابق من تلك السنة، كان من المفترض فتح منفذ عرعر الحدودي مع العراق. وحصل الدريس على خبر مؤكد من مصدر مستقل وموثوق. ولذلك نشر الخبر في الصفحة الأولى كسبق صحافي مهم قبل تصريح وكالة الأنباء السعودية (واس).

قال الدريس: (اتصل بي مسؤول من وزارة الخارجية بعد نشر الخبر وطلب معرفة مصدر الخبر، فقلت له: (ركز على عملك فقط.. هذا الأمر ليس من اختصاصك، وأقفلت الهاتف فوراً). قلت للدريس : (هل أنشر حكايتك؟ (Is It On The Record?)، فأجابني: (نعم، بالتأكيد)! وأضاف مؤكدا أن التزامه بنشر الحقيقة، عبر استغلال هامش الحرية الصغير نسبيا والمبادرة لاختراق حدود الرقابة التقليدية بمهارة ولأقصى حد ممكن، لم يتأثر بهذه الحادثة.

وقمت بذكر حكايته في مقالة خاصة كتبتها عن الصحافة السعودية لحساب وكالة رويترز للأنباء. ومن المدهش أنه مايزال في عمله حتى الآن (أي وقت تأليف هذا الكتاب عام 2005) وهو ربما ما يثبت لا شيء أكثر من صحة قوله إن هناك حقاً حرية يمكن أن تستغل فقط إذا لم يكن رؤساء التحرير جبناء وخائفين جداً من التحلي بالشجاعة والجرأة وأخذ زمام المبادرة والتجربة.

الدريس، فوق هذا، يملك سجلاً حافلاً من الكتابة الصحافية الجريئة والصريحة لأقصى حد؛ فعندما كان مديراً لتحرير مجلة اليمامة قبل 15 سنة، نشر مقالة أثارت جدلاً كبيراً يذكره المثقفون حتى الآن، تحت عنوان (يمكن ترجمته كالتالي تقريباً): (الحق الذي أعطي ولم يؤخذ مطلقاً)!! هناك جدل في السعودية بأنه لكون رؤساء التحرير وكبار الصحافيين يحتلون مكانة اجتماعية متميزة، فإن هذا يجعلهم – حتمياً ومن دون شك - جزء من النظام. ولهذا فقد يعتبرون بالتالي عقبة أما حرية الصحافة وجزء من المشكلة الرقابية بدلاً من وسيط لحلها.

المسؤولون السعوديون يشجعون ويحثون رؤساء التحرير دائماً على استغلال الفرص المناسبة لمناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية الحساسة، ولكن الدريس يصر، بالرغم من ذلك، بأن السبب أن رؤساء التحرير في المجموع العام ما يزالون يرفضون المغامرة هو لكونهم (يحصلون على مرتبات ضخمة، ولديهم مراكز اجتماعية متميزة، والناس يتملقونهم دائماً بسبب ذلك). وهم مترددون من حيث كونهم بعد وصولهم لمناصب عالية في حياتهم يخافون من فقدان تلك المزايا المهمة لو حاولوا قليلاً تغيير العرف السائد عبر المبادرة والجرأة لاستغلال هامش الحرية وتغيير العرف السائد(Rocking The Boat) . للأسف شهادة الدريس أصابت كبد الحقيقة.

(10) سر شعبية الجريدة البرتغالية

هناك نكتة قديمة ومستمرة حتى الآن بين الشباب السعودي وهي أن جريدة الرياضية اليومية ذات اللون البرتغالي تتمتع بأكبر شعبية وتوزع أكبر كمية لأنها الجريدة الوحيدة التي (تنشر الحقيقة وأخبارها صحيحة 100 في المئة)! وباستثنائها يتم إجبار السعوديين على بلع ما تنشره الصحف الأخرى من مواد حكومية!

(11) توزيع الصحف السعودية

تعاني الصحف السعودية من أزمة توزيع ومبيعات؛ فبينما كانت تبيع أفضلها بمعدل 120.000 نسخة في الثمانينيات عندما كان تعداد السعودية 10 مليون نسمة حسب، فإن توزيع الصحف اليوم لا يزيد مطلقاً في أحسن الأحوال عن ذلك الرقم بالرغم من تضاعف عدد السكان. وعلى الرغم من كون الإحصاءات والأرقام المتداولة غير دقيقة ولا يعتمد عليها مثل أي إحصاءات حكومية في العالم العربي، فإن الأرقام المتوافرة تدل على أن كل 1000 سعودي يشترون 40 جريدة فحسب، وهي نسبة متواضعة جدا.

مبيعات الصحف طبعاً تنحدر عالمياً ولكن النتيجة الصحية لهذا الانحدار في الغرب هو زيادة التنافس عبر تطوير الجودة التحريرية حيث تحاول المطبوعات رفع مستوى المواد لكسب ثقة القراء.

ولكن، مع هذا، لأن الصحف السعودية يملكها رجال أعمال وِشخصيات نافذة لديهم أموال لتمويل تلك الصحف حتى لو لم تبع نسخة واحدة. ولكون أغلبية الصحف هدفها الجامح ليس الحصول على ربح ولا إثارة نقاشات جادة فحسب، ولكن نشر مواد حكومية مختارة بعناية لتساعد مالكها بطريقة أو أخرى لكسب نفوذ ما. وسبب آخر لانحدار توزيع الصحف السعودية هو المنافسة الحادة من الفضائيات التي اكتسبت صدقية كبيرة.

(12) هيئة الصحافيين السعوديين

تأسست هيئة الصحافيين السعوديين في عام 2003، وصاحَبها صخب ودعاية كبيرة كأول هيئة مهنية سعودية مستقلة، ووصل لمجلس إدارتها بسرعة مجموعة مختارة من الصحافيين بطريقة لا يمكن وصفها ديمقراطية إلا من قبل الحكومة. وظهور هذه الهيئة مثير لأنه يمثل ظاهرياً بداية تكون هيئات مجتمع مدني مستقلة. لكن للأسف، ولأن الكثيرين في السعودية يدخلون مجال الصحافة لأسباب نفعية وتحقيق تميز وبرستيج اجتماعي، فإن هذه الهيئة أصبحت آخر مكان يمكن لأي شخص أن يتوقع منها السعي إلى تطوير الإعلام السعودي بصورة جادة.

(13) من أسرار الصحافة السعودية والخليجية

لقد أصبح من مصلحة المحررين أنفسهم تضخيم أرقام توزيع الجرائد ولكن ليس من أجل التباهي والزهو فحسب. وفي حالة تتكرر دائماً في الخليج العربي، هناك جريدة يومية سعودية كانت تبيع مساحات الإعلان على أساس أن توزيعها يتخطى 80.000 نسخة يومياً. لكن توزيعها الحقيقي كما اعترف لي مدير التسويق بنفسه عندما قابلته، هو 16.000 نسخة فقط! ونصف هذه النسخ تذهب للخطوط الجوية السعودية. ولهذا، اعترف لي بسر مهم وهو أن رقم توزيعها الحقيقي بعد خصم الرجيع والنسخ المجانية لا يتجاوز 6.000 نسخة فقط. لكن لا ينبغي الخجل من هذه الأرقام في حد ذاتها بالرغم من أنها ستقلل من عدد الأمريكان (يتهكم برادلي) الذين يحاولون دخول مواقع الجرائد الخليجية (الناطقة بالإنكليزية) على النت يومياً، والتي يعتقدون، على افتراض أنها مثيرة، بأنها تمثل الرأي العام في المنطقة. وسبب آخر يجعلنا نتحفظ على اعتقاد القراء الأمريكان بماهية الصحافة السعودية الناطقة بالإنكليزية هو كون 90 في المئة من المحررين في الجرائد الخليجية الناطقة بالإنكليزية هم من شبه الجزيرة الهندية. وفي جريدة عرب نيوز الواقعة في جدة حيث عملت، يبتهج هؤلاء المحررون الهنود كثيراً عندما يقرأون أعمدة خبراء الشرق الأوسط في كبرى الجرائد الأمريكية مثل توماس فيرديمان ودانيال بايبس، ويجدونهم يستشهدون بافتتاحيات هده الصحف الخليجية-الإنكليزية، لأن هؤلاء الكتاب الأمريكان يتوهمون أن افتتاحيات الصحف الخليجية الناطقة بالإنكليزية تعكس تغير في الفكر والعقلية العربية (Mindset)، ولكن في الحقيقة معظم هذه الافتتاحيات تعكس نفس العقلية الأنكلو-أمريكية، لأنني كنت أنا من يكتبها في عرب نيوز مثلاً: أي رجل بريطاني نشأ في جنوب فرنسا وإذا كنت في إجازة يكتبها زميل بريطاني آخر قادم من شمال انكلترا.

ولكن السبب الرئيسي الذي يجعل المحررين في الخليج يعتبرون أرقام التوزيع سرية للغاية، هو كون الشركات التي تملك تلك الصحف تربط المحتوى التحريري مع العائد الإعلاني. ولكنهم يفعلون ذلك ليس بالطريقة التي يتمناها العاقل وكما يحدث في الغرب والتي تكون مبنية على افتراض أن الجريدة الجيدة التي تتمتع بشعبية كبيرة سوف تجذب حتماً إعلانات أكثر، ولكن هنا يعكسون العملية عندما تطلب الشركات المالكة للصحافة من رؤساء التحرير عمل (أي شيء) لجعل المعلنين سعداء. والنتيجة العامة لهذه السياسة، كما لا تحتاج لشرح، هي كارثة مدمرة لكل من حرية الصحافة وجودة التقارير.

** ** **

- قريباً .. بحث نادر في أربع حلقات حول "الشريعة في السودان - التطبيق والنتائج"

د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com