Saturday 07/12/2013 Issue 420 السبت 3 ,صفر 1435 العدد
07/12/2013

«الأسير المهاجر»

بدر عمر المطيري

120 صفحة من القطع المتوسط

فارس ديوانه أسير زمانه وإنسانه ومكانه.. ليس أسراً لوحده وإنما هجرة فرضتها ظروفه السوداء.. وراح يعاني مرارة وحشتها ووحدتها.. لن نستطيع الوصول إلى قرارها لا استقرارها ما لم نغص في بحر تفاصيلها حيث يسكن شيطان.. أو لأقل قبطان الدلالة.

على ما تحتويه الأعماق من شواهد وشهود على أسره.. وعلى هجرته.. إنه الديوان:

بداية مع أولى قصائده تحت عنوان «فتى الفتيان» حيث يقول:

أسرجت خيل مناجاتي وقلت لها

سيري على بركات الله للأبد

سيري رويداً رويداً عانقي سحبي

حتى يغيب حضوري في ندى البرد

ما زلت طفلا ً أرى سر الدنى نقبا

هذي. وتلك وأخرى دونما عدد

فتشت عن الفتى فألفيت فتاة لا فتى كما جاء في العنوان.. الفتاة أنثى. والفتى مذكر.. أذكِّر شاعرنا الفارق بين المسميين للتصحيح..

حسنًا لو أن عنوانه جاء على النحو التالي «فتاة الفتيان»

«مراهقة بريئة» كان له معها خطاب:

لا تركضي خلف من لا يعرف الحبا

صوني العواطف عن من يشبه الذئبا

فأنت ما زلت في الدنيا مراهقة

أخشى عليك من الإعصار إن هبَّا

ولا تزال بك الأحلام عاصفة

تثير فيك الأماني توهم القلبا..

حسناً جاء الوعظ مبكراً لفتاة غضة تواجه إعصار الحب.. في زمن الذئاب الناطقة التي تبحث عن فريسة لا مخالب لها.. إنه يدلها على السبيل الأسلم لعفتها وسمعتها:

فالزوج أنسب من تهوينه رجلا

والزوج أصدق قلب يمنح الحبا..

ومع هذا يا عزيزي.. مع الخشية والحذر تتضاعف حالات الطلاق؛ لأن الزواج قسمة ونصيب.. واختيار صعب بمراحله ومشاكله..

شاعرنا المطيري يُهوِّم بخاطرته الشعرية في دنيا الوجدان إلى درجة الهيام.. يقول عن «روح هائمة»:

حور من الجن أم حور من الإنس

أشرقن كالنور في فكري وفي حسي

لقد طرح التساؤل.. وأهمل علامة الاستفهام اللازمة..(؟)

فيهن من خطرات العشق أجملها

في الغد، والطرف، والإحساس، والنفس

لكل هذه الأوصاف مجتمعة صرخ شاعرنا مبهوراً:

صرخت انتن غيث جاد وابله

على الرياض فأحيا ميت الغرس..

بعض الحسان جمال غير متقد

وبعضهن جمال مرهف الحس..

هناك فرق بين صورة وأخرى.. وسجية وثانية.. وكي يؤكد مفهومه للحب قال عنه:

الحب ليس الذي قالوه في الكتب

وعلى الذي في أغاني اللهب والطرب

الحب أعمق من تصوير مفردة

ومن تمايل أجساد بلا أدب..

إذاً أين هو المعيار؟

الحب دنيا لياليها منورة

وصبحها موعد يسمو على الريب

بعض معيار يفتقر إلى المزيد قالت عنه فائزة أحمد في مقطوعتها الغنائية الجميلة:

ما تحبنيش بالشكل ده

الحب أجمل من كده

الحب مش غيرة وشجن

الحب أجمل من كده

الحب وفاق، وتكافؤ، وتضحية.. ومشاركة.. وبناء عش سليم يقاوم عوامل التعرية الحياتية.

«بقايا أشجان» عنوان جيد يرسم بعضًا من معاناته:

أأبقى هنا في جوف بيتي مسهداً

أقاسي الهوى، والحب أعتى تمردا

يصاحبني حرف أرق من الشذى

ولكنه يقسو إذا صافح اليدا

أنت تطرح السؤال.. وغيرك يطرح علامة استفهام لازبة (؟) ثم يا شاعرنا بدر لِمَ الضيق وفي صحبتك الحرف الشذي.. الحرف وحده يفتح لك كل النوافذ والأبواب المغلقة إن أنت أعطيت له العنان في الحركة دون قيد.

شاعرنا يشكو بصمة المشيب على ملامحه.. الشيب ليس عيباً.. إنه وعاء تجربة حياتية يمر بها الإنسان.. تجربة رابحة لو أحسن استثمارها.. دون رعشة خوف أو هرم.. أو وحدة قاتلة.. ليست معك وأنت تعبر في يأس بقايا عمرك..

فلما غزاني الشيب فارقت ساحها

وعدت أسير الهم أشكو التشردا

لقلبي أن يشكو، وللعين دمعها

والنفس أن تشقى.. وأن لا تعيدا

كثير هذا عليك.. شمّر عن ساعديك وعدْ إلى الحياة من جديد.. العمر المتجدِّد لا يقبل الأجل قبل أن يحل..

نتجاوز معًا بعضًا من عناوين ديوان «ذات الدلال» و»دعوة إلى التحرر» و»معزوفة من أجل عيني هند» لإتاحة الفرصة لعناوين أخرى أكثر تنوعًا.. «ركب الهداية» ما أحوجنا إليه؛ لأنه صوت يقظة تنشد الهداية وتأبى الغواية: إنه يخاطب ماضيه المستفز:

أتثير في نفسي الغرائز والهوى؟

أتردني نحو الصبابة والغوى؟

أتعيد لي آثام عمر ضائع

بمواجع الدنيا اتعذب واكتوى

لا توقظ الذكرى فأنت جعلتني

شبحًا يسير مع الجموع ولا يُرى

أيقظ إذا شئت السلو فإنما

سلواي أن أغدو طليقاً في المدى

ما عاد يعنيني غرامك كله

يا مهرقا ساعات عمري في الهبا

بهذا الإصرار على قبر الماضي قطع بدر المطيري قول كل خطيب أعلنها توبة نصوحًا:

ما ضل من اتخذ الهداية مركبا

لكن يضل السائرون بلا هدى

لكن... لا مكان من الإعراب بعد الإنابة والتوبة..

أخذنا شاعرنا معه في «ارتحال» لن يطول:

سنرحل للحب يا صاحبي

سندخل حيث الهوى. والمنى

وحيث الربيع يفيض ندى

سنرحل حيث الزمان

أرق. وأهمل من عمرنا..

يبدو أنه لم يرتحل.. ولم يأخذنا معه.. كانت مجرد فكرة طرأت ثم ماتت.! ما علينا سنبحث معه عن «الوجود من غير حب».

كيف يراه..؟.. وهل هناك وجود بلا حب؟ ما شكله؟ ما لونه؟ وما طعمه؟ إنه يتحدث عن نفسه:

فؤادي بدنيا العشق طفل مدلل

وألحان عمري في الجمال مثاني

إذا كنت محسوداً على عالم الهوى

فأيامه مرت مرور ثواني

كأن وعود الغير غير محقق

كأن الرضا منهن ليس بدان

ولا زلت أمشي إثر كل جميلة

أذوب من حرفي لها وبياني

ومن دون حب فالوجود قصيدة

بغير حروف أو بغير معاني

بيته الأخير يكفي للإجابة عن عنوانه.. يريد أن يقول لنا جميعا بملء فمه وبملء ريشة قلمه أن لا حياة دون حب.. ولا حب دون حياة..

ساعة صحو جميل متوهج قال:

تحرر عقلي من تقاليد بالية

وعدت إلى دنيا الحقيقة ثانية

وأيقظت إبداع الحياة بداخلي

وصفت به حال الزمان وحاليه

وما كان عقلي غير شمس توهجت

فأطفأ نور الشمس وهم لياليه

نعم العقل أولاً. وثانياً. وثالثاً.. دون عقل يتحوّل الكائن الحي إلى كائن ميت أشبه بالصخور.. إنه لا يتحرّك، لا يفكر.. لا يؤدي وظيفة حياته.. لا يمتلك القدرة على الاختيار.. ولا يفرّق بين الصواب والخطأ.. بين العدل والعذل.. يعود بنا بدر إلى كنف حبه.. ولكن بشكل مختلف:

صفا الحب يا ليلى، صفا وصفا

ومن جمالك رفّ القلب وارتجفا

كل الحسان بدنيا الحب واحدة

إلا هواك أتى في الناس مختلفا

يريد أن يقول: إن لكل حب مذاقه، وأشواقه.. وأشواكه أيضًا.. التجربة تعني هذا..

نتجاوز سوياً مع شاعرنا عدّة محطات «يا أخا الود» و»الرقية» و»حرب الكلام» و»أخو الهوى وأبوه» كي نقف هنيهة على أطلال حب عاثر:

لعينيك الهوى والحب احترف

لا المال.. كل المال يرضيني ولا التحف

فأنت بدفتري حرف يرف وجملة تقف

وأنت يا حبيبتي وعد رمته بدربي الصدف

فيوم لقائنا طابت بلقيا حبنا المدن

وحيتا عواصمها، وعانق لامها الألف

لعلها من أجمل قصائد ديوانه توصيفًا.. وتوظيفاً للمفردات وقدمه شاعر أدرى بشعره تحدث بعفوية عن عجز الشعراء. وعن قدرتهم على تغيير ملامح الحاضر.. وبين سلبية العجز وإيجابية المقدرة تتخلق أشياء وتنفق أشياء.. إلا أنها أمام فينوس الجمال.. وكليبوترا الحسن تبدو عاجزة..

أرى الأنثى تهيم بكل شاعر

لما تلقاه من صدق المشاعر

وما في الشعر من إحساس قلب

وروح عذبة وجميل خاطر

هم الشعراء كم هدوا عروشها

بأبيات بنت للناس حاضر

ولكن يعجز الشعراء دوما

إذا لاح الجميل لكل ناظر

ونسي شاعرنا أن للشعر ضريبة يدفعها الشاعر أحياناً من حياته إلى درجة سكن المقابر..

في ملاحقة مجهدة لقصائد شاعرنا الوجدانية أحسست بالتعب وأنا ألهث بين قصائده التي لا يمكن استغراقها لكثرتها.. وإنما المرور عليها مرور الكرام.. مرغمًا لا بطلاً.. ادعها.. لاقترب من «دعي الحياة» ماذا يعني؟!

تصوَّفي تهجر الدنيا وزينتها

نعيش طفلين للأحلام واللعب

دعي الحياة لمن يهوي زخارفها

وقرِّبي الحس من عيني واقتربي

التصوف في قاموسه حب.. هكذا الحب في نظره عبادة.. وحياة عشق طفولي.. وحلم مجنح.. واقتراب لا اغتراب فيه..

يعود شاعرنا إلى اشتياقه للقبل الحرى.. إنه لا يشبع.. أي لا يشبع قلمه من الاشتياق والعناق.. هكذا ينزع الشعراء الهاوون..

ما بين صمت العاشقين وبوحهم

تصحو الدروب. وترقص الأشواق

وقلوب من تهوى لقاء حبيبها

هي روضة. فيها الشذى وفاق

وقصيدهم تصوير قبلة عاشق

والقبلة الحرى لها إحراق

يصف نار الحب جنةً في شفة الحبيبة.. والسحر في قلب الحبيب مراق.. ومسكوب.. ومرغوب.. هكذا يتحدث.. شاعرنا بدر عمر المطيري عبر رحلتنا الشعرية معه ومن خلال القراءة لديوانه «الأسير المهاجر» أكَّد أن للحب صوته القوي والمسيطر على ديباجة شعره، إنه لا يكلّ ولا يملّ فلا الوجد نفع.. ولا الوجدان شبع.. ولا الصورة الشعرية بكثافتها تغيّرت.. إنها عاشقة ظمأى تبحث عن نمير يطفئ لهيب ظمئها فما تقدر.. وهذه آخر وجدانيته «دموع الهوى» عن ماذا تتحدث.. لكل هوى.. وفي كل هوى دموع.. فما الجديد؟!

تنادر في أمر الهوى وتراوغ

وما أنا إلا في هواها أبالغ

وترنو إلى غيري وتعلم أنها

بألحاظها طرفى المعذب والغ

شربت كؤوس الحسن من كل غادة

ولكنها الغيداء والحسن سابغ

تغض عيوني عن رؤى الحسن عفة

فما لك طرفي للحبيبة زالغ؟!

املي سيوف الأربعين تخيفني

ولكن عمري في هواها لنابغ!

إذا وصلتني فالبحار عرائس

وإن رحلت فالبحر ساج وفارغ

اكتملت الصورة في ذهنه.. إنها وحدها الذي رهن قلبه من أجلها.. إن رحلت كان هو الرحيل.. وإن ظلت حيث هي فبصره زائغ يراقبها ويحصي أنفاسها.. ولا لمجنون ليلى..

صعب على المحبين أن يأتي خطابهم الوجداني خطبا.. وكارثة تقوض حاسة الشعر برومانسيته التي لا تخاصم ذاتها.. ولا تهز ثباتها.. إنه الحب العاصفة في عيون الشعر منذ أن قرأناه لاهباً غاضباً، مفتوناً، مجنوناً لا يتغيّر.

- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338