مِن الأشياء البسيطة التي استعصت على المحتلّ الصهيونيّ، وظلّتْ تعبّر عن الرّوح الفلسطينيّة المتمرّدة، ثمّة أداة موسيقيّة اسمها اليرغول. التي هي عبارة عن قصبتين طويلتين مثقّبتين، وموشومتين في عنقيهما بجرحين خفيفين، يسمحان لِلِسانين صغيرين بالولوج فيهما. وفي الوقت نفسه تمسك الواحدة بالأخرى وتعانقها، حتى إذا ابتدأ العزف انفجرتا بالصّراخ القاسي المجنون، كأختين من نسل الجان.
ذلك هو اليرغول الفلسطيني البسيط والمرعب في الوقت نفسه حين يترجّل…
لكأنّ سماءً تتهدّم في إهاب القصب، جبالاً فقدتْ رشدها وفزّتْ من مكامنها وأخذتْ تترنّح، صواعق مجنونة تهبط من جحورها السّماويّة وتضرب بأظلافها القاسية بطن الأرض، ريحاً سوداء تنوح في المنحدرات، يداً عظيمة تطلّ هكذا دون مقدّمات وتدقّ القمر والنجوم على صخرة محدثة في عمق الليل تلك الجلبة البيضاء النورانيّة.
ذلك هو اليرغول الفلسطيني ينتفض بين يديّ العازف مثل أفعى مسعورة، ويلدغ كلّ شيء ويسمّمه: يلدغ الهواء فيتقصّف وينشج، يلدغ الرّاقصين فتجفل أجسادهم مثل جياد ممسوسة، ويلدغ المتفرّجين فتفيض رؤوسهم بالنّار، وتكتسحهم زوبعة الصّوت الطاغية.
ذلك هو اليرغول الفلسطيني الذي استطاع أن يُعبّر عن المأساة الفلسطينيّة جيلاً بعد جيل، ومجزرةً بعد مجزرة، ويحمل على كاهله إرث النّار والدّم. مثل جيش جرّار نراه يتقدّم في الأعراس بكتائبه الخّاصّة من الرّعد ويحيل القرى الفلسطينيّة في جبال القدس وسهول جنين إلى براكين فائرة بالأحلام. إنّه شريان فلسطين السّريّ الذي لا يزال يضخّ في لحم التّراب نسله العظيم المقاوم.
تُرى ما الذي حدث بالضّبط للقصب السّاذج على حواف القنوات والينابيع ليتحوّل في لحظة واحدة من مجرّد أصابع طويلة عمياء إلى أفواه مجنونة يتصبّب منها الصّراخ والألم؟ هل هو الشّعور الجارف باليتم الذي شبّ في روح القصب حين ذُبِح وأُبعد عن الماء فأخذ يبثّ حنينه الحرّاق تماماً كما يفعل الشّعب الفلسطيني المذبوح من الوريد إلى الوريد؟!
الشّاعر الفلسطيني الكبير ( أبو سلمى ) روى حكايته مع القصب، وكيف أثّرتْ فيه تلك الحكاية وقادته إلى الشّعر: في نواحي مدينة حيفا كان هناك ثمّة راعٍ. كان الرّاعي يخرج كلّ صباح بأبقار القرية إلى الحقول. كان لديه شبّابة من القصب، فكان يعزف عليها ألحانه العذبة طوال النّهار. حتى إذا مالت الشمس إلى الغروب رجع بالأبقار. الراعي وقع في غرام إحدى الفتيات في القرية، فكانت شبّابته لا تهدأ في الليل. لقد تولّه بالفتاة، وذات يوم قرّر أن يطلب يدها من أبيها الذي لم يكن في الواقع سوى شيخ القرية، فثارت ثائرة الأب ولم يكتفِ برفض طلب الراعي وإنّما قام بمعاقبته حيث جزّ له أصابعه التي يمسك بها الشّبابة ليكفّ عن عزفه إلى الأبد. وبالفعل فقد انسحب الراعي ليس من حياة حبيبته وإنما من حياة القرية، وقد اعتكف في أحد الكهوف البعيدة وأخذ يفكّر بالأمر. في هذه الأثناء ساءت أُمور النّاس، فالأبقار لا تجد من يرعاها. أخذ الكلّ يتذمّر ويبحث عن حلّ. هنا خطرت على بال الراعي فكرة مجنونة، فقرّر أن ينفّذها في الحال. ذهب إلى النّبع، واستعان بأحد الفلاحين هناك ليقطع له عشر قصبات ويثبّتها مكان أصابعه المبتورة. بعد ذلك رجع الراعي إلى القرية. وحين أطلّ على البيوت أخذ يعزف على القصبات بكلّ ما أُوتي من قوّة. فما كان من النّاس الذين سمعوا ذلك اللحن الغريب إلاّ أن خرجوا عن بكرة أبيهم. خرجت الأبقار أيضاً. خرجتْ الفتاة حبيبة الراعي وخرج أبوها. وشاهد الجميع الراعي العاشق الذي كان لا يعزف على شبّابة واحدة، وإنّما على عشر شبّابات هنّ أصابعه الجديدة. فاُعجِب الشّيخ بالراعي وزوّجه ابنته. الشاعر (أبو سلمى) كتب قصيدته الأولى بناءً على هذه الحكاية، وحين خرج من حيفا عام 1948 إلى لبنان وأقام في دمشق ظلّ يتذكّرها، ويحاول أن يصنع من الشّعر شيئاً شبيهاً بما صنع ذلك الراعي من القصب.
في الثّلاثينيات والأربعينيّات من القرن الماضي، ساهمت هذه الأداة العظيمة (اليرغول) جنباً إلى جنب مع فنون الزّجل من (شروقي وميجنا وعتابا) وفنون الغناء الأُخرى من (دلعونا وجفرا وزريف الطّول) في صوغ وجدان الشّعب الفلسطيني. عام 1948 حدثتْ النّكبة، ولكنّ اليرغول استعصى على الرّحيل. فكان أن استمرّ في أداء دوره الحضاري من خلال فرق الحدّائين التي انتشرتْ أكثر ما انتشرتْ في قرى ومدن الخليل. بعد عام 1967 ومع احتلال ما كان يُعرف بالضّفّة الغربيّة خاض اليرغول معركة البقاء مرّةً أُخرى وانتصر. إذ نادراً ما أصبحتْ تقام الأعراس دون يرغول وحدائين. وقد ساعد على بروز هذه الظّاهرة صعود تلك السّلالة الجديدة من المغنين الشّعبيّين. وقد ظهر هؤلاء أكثر ما ظهروا في منطقة جنين. ومن هنا لم يكن مستغرباً إطلاقاً أن تشكّل جنين في السنوات الأخيرة كما شكّلت سابقاً بؤرة الثّورة والمقاومة.
وبعد ما الذي يريد اليرغول أن يقوله؟؟ وما هو السّبب وراء كلّ هذا الطّيش والرّعونة في عوائه المجنون وارتعاداته الآثمة، خاصّةً حين يفقد رشده ويهجم كالإعصار على الأشياء والكائنات؟؟
حدّثني أحد الشعراء الشّعبيين الفلسطينيين عن قصّته مع اليرغول، قال: كنت أُنشد الشعر واُغنّيه على وقع اليرغول. وما هي إلاّ لحظات حتى أخذ اليرغول وعازفه يجرّاني نحو مناطق بعيدة في الغناء لم أكن قد خطّطتُ لها من قبل. فصرت أرتجل واليرغول يتصبّب بكل ذلك البهتان. وفجأةً أخذ الجمهور يطرب ويهيج. كان الحفل في الهواء الطّلق وخُيّل إليّ كأنّني أدخل في أنفاق وسراديب طويلة. كنت محض مجنون والليل يلتمع فوق رأسي مثل جبل هائل من الدّيناميت. ثمّ لم أعد أعرف ماذا حدث، لقد جُنّ الجمهور وأُصيب بالهستيريا وهام النّاس على وجوههم.