لن يستطيع المرء الاهتداء بسهولة إلى ما يجمع بين الموقف التقويمي لدى طه حسين، الذي نتج عنه تفاضل بين الشعراء وبين خطاب الشعر وخطاب الفلسفة... الخ، وترام إلى ما ينبغي أن يكون، وبين الموقف الوصفي الذي تبدو فيه العناية بدراسة ما هو كائن، وفيه بدا الأدب مشدوداً إلى أصل فهو مرآة المجتمع والزمان والمكان ومرآة الأديب ومرآة الإنسانية بما يجاوز الانحصار في حد. فاجتماع الموقفين معاً لدى طه حسين لا يحيل على أصل نظري يكشف عن علة الاجتماع بينهما ويفسر تفاعلهما. وهذا يعني أن الموقف النظري لديه ملتبس بين المثالية والواقعية، وبين الرومانسية والوجودية، وبين التلقائية والخيرية الطبيعية التي لا يتكلف معها الأديب قصداً إلى غاية أخلاقية واجتماعية من جهة، والالتزام –من جهة أخرى- الذي يجعل تلك الغاية فعلاً واعياً ومقصوداً.
بل إن المرء ليزداد الالتباس عليه حتى تصبح معاني التجديد والحرية والاستقلال... التي منحها طه حسين القيمة، مشدودة لديه –في الوقت نفسه- إلى أضدادها التي تتقاسم معها القيمة. فإذا كان التجديد قيمة إيجابية لأن «العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لساناً ويتيح لها أن تعبّر فيه عن ذات نفسها «فإن التقليد هو الآخر يأخذ لديه قيمة إيجابية، فالعناصر التقليدية «هي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى». و«التحول عنها قَتْل لهذا الأدب وقَطْع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني». ولذلك يغدو التقليد ضربة لازب على الأدب العربي، شعره ونثره، فهو –فيما يقول- «تقليدي ليس في ذلك من شك، له طابع العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم ما بذل الأدباء وما سيبذلون من الجهود الهائلة المضنية».
وقد مضى إلى استعراض ظواهر التجديد في الشعر العربي، فهي تنتهي دائماً إلى حاجز التقاليد في جانب أو آخر فتفشل في كسره ومجاوزته. ومن ذلك تجديد أصحاب «البديع» وأمثالهم في العصر العباسي، فهؤلاء «جددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائماً بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزاناً يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء».
ويقف على الهزء بالبداوة ووصف الطرق والإبل والعيب للوقوف على الأطلال فيما قرأنا عند أبي نواس، فأبو نواس –نفسه- ذكر الأطلال والرسوم كما ذكرها القدماء، ووصف الطرق والإبل، وحين حاول التجديد حنّ إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الأعرابي يحنّ إلى ديار هند وأسماء، فلم يختلف الحنين وإن تغيّرت المظاهر والألفاظ. ولا تخرج مبالغات المجددين وتكلفهم عن سذاجة القدماء. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن أصحاب الموشحات في الأندلس فلم تنته محاولتهم إلى تحطيم الإطار القديم لأنها لم تعمر طويلاً.
وقد نفهم هذه الأوصاف من جهة الحكم على التجديد دوماً بالتساوي مع عدمه، ما دام أن التجديد لم يشكل إلا دوائر صغرى في محيط الأدب العربي، وظل مظاهر وأشكالاً تحمل الرؤى والمضامين نفسها. وقد يثير هذا سؤالاً عن التجديد الذي نتج عن شعر التفعيلة فنجح في العدول إلى وزن خارج أوزان العروض ودوائرها الثابتة، وفي بروز المظهر الكتابي للقصيدة لا السماعي أو معه، بالإضافة إلى انخلاع عن الغرضية النفعية القديمة فيما تأتي من المدائح المتكسِّبة وما تدور عليه من معجم وصور متناسخة بين الشعراء.
إن طه حسين يبدو وكأنه يقوم بدور التبرير للتقليد واكتشاف مقاصد ثقافية وجمالية أبعد مدى من الأنانية والنفعية التي وقف عليها عند الشعراء التقليديين وكانت سبباً واضحاً لتدني قيمتهم لديه، وتفاضلهم النسبي بمقدار التخفف منها ومجافاتها. فالمديح الذي علت –مثلاً- قيمة أبي العلاء لأنه لم يمتهن شعره في مغانمه المادية، يصبح في وجهة تأويلية أخرى –لديه- باباً من أبواب تسخير الحياة في سبيل الأدب، لأن «المادحين من الشعراء والكتّاب أيضاً في العصور القديمة لم يكونوا يتخذون الأدب وسائل إلى السادة وإنما كانوا يتخذون السادة وسائل إلى الإنتاج الأدبي ينتفعون بشوقهم إلى المدح ورغبتهم فيه وبذلهم المال للظفر به». وليس بقاء هذا الشعر ووجداننا المتعة فيه إلا دليلاً على مجاوزته المخاطبين فيه بالمديح إلى غيرهم من بني الإنسان فـ»نحن نقرأ الآن وستقرأ الأجيال غدًا وبعد غدٍ أدباً وجِّه إلى هؤلاء الملوك والأمراء وأصحاب الثراء منذ القرون الطوال أشد الطول، فلمَ بقي إلى الآن ولمَ يبق إلى غدٍ وبعد غدٍ، ولمَ لم يمت مع قائليه ومع الذين وجِّه إليهم من الأقوياء والأغنياء! أكان بقاؤه ممكناً لو لم يكن فيه هذا العنصر الاجتماعي الإنساني الذي أتاح له البقاء وأتاح للأجيال المتعاقبة أن تفزع إليه تلتمس فيه اللذة والمتاع ونعيم النفس وغبطة القلب ورضى الضمير».
وإذا كان طه حسين قد ابتهج بالجدة والحرية اللتين وجدهما لدى خليل مطران واللتين ارتفع بهما عن الشعراء، فقد كان من المنتظر أن يتضاعف ابتهاجه بـ»شعر التفعيلة»، الذي شاعت تسميته أول ما ظهر بـ»الشعر الحر» و»الشعر الجديد» و»الشعر الحديث». فهو خطوة أدل على مجاوزة التقليد وكسر قيد الانحصار في عمود الشعر، وكان من المنتظر أن تمتد الموازنات المعتادة لدى طه حسين في تجلية القيمة ورسم تفاوت درجاتها، إلى الموازنة بهذا الشعر وبشعرائه وفيما بينهم. بل لنا أن نقول: إن تجدد الدعوة إلى شعر بلا وزن، في الاحتفال بـ»قصيدة النثر» وبـ»الكتابة السريالية» لدى «جماعة الفن والحرية» التي ظهرت عام 1939م، في مصر بقيادة جورج حنين (1914-1973م) وتحوَّل اسمها إلى «جماعة الخبز والحرية» في منتصف الأربعينات. وفي جماعة مجلة «شعر» البيروتية -بعد ذلك- التي ظهر عددها الأول في شتاء 1957م، كان مسافة أبعد نجعة في الترامي إلى التجديد والدلالة على الحرية. لكن ذلك عملياً لم ينل قليلاً أو كثيراً من التفات طه حسين، وهو إن التفت إليه فإنما التفت إلى تأكيد شرعية التجديد على وجه العموم، أما نجاح هذا التجديد فإنه مسألة أخرى لها شروط التذوق والإساغة اللذين يتصلان بالحرية ويستعصيان أشد استعصاء على الفرض والإلزام.
إنه يعنون مقالاً نشره في مجلة «الأديب» البيروتية (عدد مايو، 1960م) هكذا: «مسألة الشعر الحديث»، وفيه يقول: «مسألة الشعر الحديث يكثر فيها الكلام، ويتصل فيها الأخذ والرد دون أن نرى من هذا الشعر الحديث شيئاً يفرض نفسه على الأدباء فرضاً، بل دون أن نرى منه شيئاً ذا طائل. وأنا أعلم أن من الشباب طائفة يرون لأنفسهم الحق في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم، وعن أوزانه وقوافيه خاصة. ولست أجادلهم في هذا الحق، بل ليس لي أن Zأجادلهم فيه، فأوزان الشعر القديم وقوافيه لم تتنزل من السماء، وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافاً قليلاً أو كثيراً أو كاملاً». وعلى هذا فإنه يتعين على هذا الشعر أن يحدث إساغة وتذوقاً وأن يفرض إبهاراً، وهذا جانب عملي في تعاطي الشعر وغيره من الفنون لا يجدي التنظير معه شيئا. ولهذا فإنه يخاطب محبي هذا الشعر، بقوله: «فإذا استطاع الذين يحبون هذا الشعر أن يقدموا إلينا منه ما يمتعنا حقاً فمن الحمق أن ننكره، أو نلتوي عليه، لا لشيء إلا لأنه لم يلتزم ما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي». لكن ما يلفت بعدئذ هو انتقال طه حسين –في المقال نفسه- إلى مطامنة الوصف لهذا التجديد بـ»الابتكار» فهذا الابتكار –فيما يقول- «ليس شيئاً يمتاز به شعراء العرب المعاصرون عن الأمم الأخرى، وإنما هو شيء قد سبق إليه شعراء الغرب منذ وقت طويل. فشعراؤنا حين يجددون لا يبتكرون، وإنما يقلدون قوماً سبقوهم» بل ليس مختلفاً «بالقياس إلى الشعراء القدماء من العرب، فما أكثر ما تطورت أوزان الشعر العربي القديم وقوافيه!».
وليست قيمة التقليد فيما عرضنا أعلاه بأقل من قيمة التجديد، لكن التقليد ينال لدى طه حسين في غير موضع تشنيعاً يشكك في قيمته تلك، ويضاعف من أهمية القلق والانفتاح على الثقافات الأخرى والملاءمة للعصر وللتغير الحضاري والاجتماعي والتمهيد له.وتقترن التجلية لسوءة التقليد كما هو المعتاد في الرؤية إلى قيمة الأساليب والمظاهر الأدبية، بالموازنة التي تكشف عن انحصار الأدب العربي دون غيره في قيدها، فهو يقول: «وما أظنني أعرف أدباً مقيداً في التحرج غالياً في الاحتياط كأدبنا العربي الحديث الذي ينشئه أصحابه وهم يفكرون في الناس أكثر مما يفكرون في أنفسهم، حتى أطمعوا الناس فيهم، وأصبحوا عبيداً للجماعة وخدماً للقراء». وهذه المثلبة التي يؤدي التقليد بها إلى الغض من الأدب العربي لا يقتصر التدليل عليها بالموازنة التي أخذت الأدب العربي إلى كفة الميزان والمفاضلة، وعلقتها بسياق من الترداد والتأكيد على قيمة الحرية وانحطاط العبودية، بل إنها تتكشف في اللغة الآمرة بالتمرد والكسر لأطواق التقليد التي تأتي، هكذا: «فلنتمرد على الجماعة، ولنثر بالقراء، ولننبذ الاحتياط كله إلا هذا الذي يثير الشر أو يؤذي الأخلاق»
هكذا تجتمع لدى طه حسين الرؤية ونقيضها، والمذهب وضده، فيَفْهم الواقعي ما يفسر واقعية الأدب وتعالي قيمته بتمثيله للواقع وترتبه عليه، وأدائه وظيفة اجتماعية، والتزام موقف واضح في دعم الإنساني والجمالي والانتصار لهما ضد الظلم والقهر والامتهان. ولكن المثالية في الوقت نفسه تجد لدى طه حسين ما يتعالى بالأديب على الجماعة، فهو ضميرها ومعلمها وبصيرتها النافذة، وتجد ا لترامي إلى الحرية والرؤية إلى قيمة الأدب في صدوره عنها وتشوفه إليها، وتطمئن إلى ما يترامى لديه من مقولات التعبير والرومانسية والطبيعة الفردية للأدب. وقد تبدو الجبرية والحتمية لازم المقدمات التي تربط لديه بين الأديب وطبيعته النفسية من جهة، وبين الأديب وتاريخه وبيئته من جهة أخرى، وذلك بالقدر نفسه الذي تقطع متطلبات حرية الأدب واستقلاله، وهي –لديه- أبرز العناصر الموجبة للقيمة، مع كل جبرية.كما تبدو الرؤية إلى الأدب من منظور الطبع في المسافة نفسها التي تحضر فيها الصنعة، والرؤية من وجهة العقل بقدر متساو مع الحاجة للخيال، وقيمة اللفظ في المسافة المساوية لقيمة المعنى. ونتيجة ذلك أن بدا طه حسين في موقف لم يعجب الحداثيين حيناً ولم يعجب التقليديين حيناً آخر، أو هو يعجب هؤلاء ويعجب خصومهم في وقت معاً. لكأنه من أنصار القديم الذين تستعصي عليهم إساغة الجديد، ولكأنه من المحدثين الذين لا يطيقون القديم!
إن ظاهر هذا من حيث صدوره عن شخص واحد، أن نسارع إلى وصفه بالتناقض. وقد نسيغ هذا التناقض حين يكون وصفاً لمواقف الشخص وتعدد رؤاه في تعاقبها وتواليها الزمني؛ لأن الوصف المناسب هنا أن نقول إنها «تحولات» في الفكر أو «تطورات»... وهذه وأمثالها صفات تدل على عدم اجتماع رؤى مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومتفاصلة في وقت واحد من شخص واحد في رؤيته للموضوع. وقد بدا عند بعض الباحثين أن مواقف طه حسين من حيث تعاقبها وتواليها في الزمن متغيرة، وفسروا هذا التغير بطبيعة التجاذبات والضغوطات في الساحة المصرية التي فرضت ارتدادات وتذبذبات طاولت المفكرين الطليعيين في الثلاثينات وما تلاها (أشرت إلى إحالات على ذلك في كتابي: الرواية العربية والتنوير). وقد نقول إنها المسافة بين الفكر النظري من جهة وممارسة التذوق والقدرة على الإساغة والتقبل التي هي رهن للألفة والتعود وليس من السهولة على رجل منغرس في التراث أن يسيغ ما لم يعتد عليه. لكن تعدد واختلاف الرؤى لدى طه حسين لم يكن دائماً في تعاقب زمني مبررٍ لاختلافها بل كانت تحدث في وقت واحد وفي الكتاب الواحد أو المقال الوحد. وهي إلى ذلك تنبئ عن وعي قصدي وليس عن غفلة أو سهو.
ولقد نظر جابر عصفور إلى هذه الرؤى المختلفة لدى طه حسين متزامنة، فوصف الصيغة النقدية التي تنطوي عليها بأنها «صيغة توفيقية». ويمكننا أن نصفها بأنها «حوارية» بالمعنى الذي يستمد من باختين في التخلص من أحادية المنظور، لولا أنها تتجنب المواقف المتطرفة وتؤثر التوسط بين النقائض والأضداد. وقد نتذكر فيما تتيحه من اجتماع المختلفات وتوسط بين الأضداد وتوازن بين النقائض فلسفة «التعادلية» لدى توفيق الحكيم، ونظرية الفضيلة لدى أرسطو الماثلة في الوسط الذهبي بين المتطرفات، أو نسبية أنشتاين التي آلت بالحقيقة التي يتحدث عنها الفلاسفة والمنظرون إلى الاندراج تحت الأنساق النظرية والفلسفية لهم بما يجعلها تتغير من نسق إلى نسق، وتنفي النظر إلى المعرفة بوصفها تراكما متصاعداً من الحقائق. لكن السؤال هنا ما دلالة هذا المظهر وما طبيعة الوعي به لدى طه حسين؟ إنه دلالة تؤشر إلى إرادة الانعتاق في إنتاج المعرفة بالفكر والأدب والمجتمع من قيد العقائدية والمذهبية، لأن هاتين الأخيرتين تلغيان الوجود الفاعل للإنسان في تجدد معرفته وذاته. والفكر الحواري بهذا المعنى هو الذي يتيح أن ينمو الجديد لا أن يُفْرَض، وأن يتعدد الفكر لا أن يستبد، وأن تثمّن فردية الإنسان واستقلاله وحريته لا أن تمتهن. إنه –إذن- مظهر متآلف مع تشخيص طه حسين لعلل الثقافة العربية التقليدية، وهو أفق طموحه إلى علاجها ديمقراطياً وعقلانياً.
- الرياض