يقول عوف بن محلّم الخزاعي:
إن الثمانين- وبُلَّغتَها-
قد أحوجت سمعي إلى ترجمانْ
أما مجلة المنهل فأحسبها حريّة بأن تنشد:
إن الثمانين – وبُلِّغتَها-
لم تحوجِ السمعَ إلى ترجمانْ
فهي ما تزال على العهد بها - منذ أنشأها عام 1355هـ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله (ت 1403هـ-1983م)- قائمةً بجهد مذكور في نشر الثقافة والأدب والفكر، حتى صارت علَمًا على الحركة الثقافية والأدبية في المملكة. ولم تزدها السنون وهذا العمر المتطاول إلا رغبة في الحياة وإن قلّ وهجها وتأثيرها.
نعم مرّت عليها سنون عجاف، وذاقت من ويلات الحياة ما ذاق الناس، فتوقفت في أثناء الحرب العالمية، وظلت تصارع للبقاء فبقيت، وتجاهد للحياة فحيت. ولولا ما سخّر لها الله من نفس أبيّة ذات شكيمة وبأس في الصبر على اللأواء والنصَب لألوت بها الدَّبوركما ألوت بغيرها من مجلات وصحف سادت ثم بادت.
ثم إنها أنموذج للبرّ فقد توارثها آل عبدالقدوس كابرًا عن كابر فتسلّم قيادتها ابنه نبيه (ت1424هـ-2004م) وأفادها من خبرته وأدبه، ثم صارت إلى حفيده زُهير الذي ما يزال حافظًا للعهد، مستمرًّا في رعايتها وإصدارها.
ومعرفتي للمنهل بدأت منذ التسعينيات الهجرية (السبعينيات الميلادية) وكنت صبيًّا أدرج في المرحلة الابتدائية، فأراها مع مجموع ما يحضره الوالد- رحمه الله- من مكتبه، في الزمن الذي كانت فيه الاشتراكات الحكومية تؤازر الصحافة والمجلات كلها. وكنت أتصفح شذرات الغزاوي وبعض قصائده وقصائد غيره، وأطالع المقالات لعثمان الصالح وحمد الجاسر وأحمد السباعي وابن خميس وأبي تراب وغيرهم رحمهم الله جميعا، فأفهم شيئًا وتغيب عني أشياء، ولكنها نَكَتَتْ في قلبي نُكتة بيضاء حبّبت إليّ القراءة في الأدب بخاصة، وما زلت أحتفظ ببعض الأعداد الصادرة ما بين عامي 1392 و 1398هـ. فحسبي إذن من العلاقة بالمنهل أن عرفتها منذ نِيطت عليّ تمائمي، وأنها أول مجلة مسّت جلدي أوراقُها.
لقد وضع عبدالقدوس الأنصاري نصب عينه أن تكون المنهل لسانًا للفكر ووعاء للثقافة، ومجالاً رحبًا لأدب بلاده وللأدب العربي كلّه، فقد قال في مقالته الافتتاحية للعدد الأول: «من أهمّ ما تصبو إليه المنهل أن توفّق لتكون فاتحة عصر جديد ناضر زاهر في أدبنا الحجازي الفتِيّ، فتعيد لهذه البلاد المقدّسة مكانتها الأدبية الشامخة»، وهو إذْ يذكر الأدب الحجازي لا يعني به أدب منطقة الحجاز فحسب، بل يريد الأدب في البلاد السعودية كلّها، وذلك واضح مما نُشر فيها من مقالات تتناول الأدب بعامة، بل إنه تجاوز بلاده إلى سائر أقطار العربية. ويشهد لهذا استكتابه طائفة من الكتاب والشعراء العرب الذين ظلّ بعضهم إلى وقت قريب يزوّدون المجلة بمقالاتهم وقصائدهم. وما يزال بعضهم دائبًا في كتابة زاوية أو سلسلة مقالات كمحمد عمارة.
وظلّ الأنصاري يذكِّر نفسه وقراء مجلته بأهدافها، فقد حفلت افتتاحياته لكثير من الأعداد بالفكرة نفسها مشيرًا إلى أن المجلة تهدف إلى نشر المعرفة، و»تقديم مصابيح التوجيه السديد...ونشر أريج الأدب». وقد صدق وبرّ فيما قال، حتى جاز لأحد الدارسين أن يشبِّه نشأتها بنشأة مجلة (الرسالة) في مصر من كل الوجوه، وأن يجعل تطوّرها كتطوّرها من بعض الوجوه.
إن لفظ (المنهل) اسم مكان من (نهل)، وهو المورد أي الموضع الذي فيه المَشْرَب، ونهل الشارب: شرب حتى روي. فاختيار لفظ دالّ على الشرب والارتواء من الماء ناتجٌ عن رغبة صاحبه في إيصال فكرٍ وأدبٍ وثقافةٍ هي من الغزارة بحيث لا يكون متلقّيها قانعًا بالوَشَل.
واسم المجلة يُكتب في غالب سني حياتها المديدة بالخط الكوفي، ويتغيّر تشكيله تغيـّرًا لا يخرج به عن إطاره. وهو خطّ يمتاز بالتشكيل الهندسي والزوايا الحادّة والزخرفة، مع خطوط انسيابية في داخله. واستعماله في اسم المجلة يشير إلى التنوّع المعرفي، والانتماء الثقافي الضارب في جذور التراث، الآخذ بأسباب الحضارة. وما يزال هذا النمط الكوفي للاسم يظهر على غلافها إلى اليوم. ثم إننا نقرأ تحت اسم المجلة هذا العنوان الجانبي (مجلة للآداب والعلوم والثقافة)، فهذه ثلاث كلمات توجز ما تهتمّ به المجلة، ويُلاحظ مجيء الأوليَيْن جمعًا (الآداب والعلوم) والثالثة مفردة (الثقافة)، وانتقاء الجمع للكلمتين الأوليَين جاء في موضعه الصحيح، لأن الفئات التي تخاطبها المجلة ممن تُعنى بالآداب والعلوم هي من المثقفين ثقافة عالية أو من المختصين الذين لا يبحثون عن طيف واحد أو مسار واحد من الآداب والعلوم، وهم في الغالب ممن قرأ وتابع وثَقِف ثقافة واسعة، ومن الملائم جدًّا أن يوصف ما يُقدّم لهم بأنه آداب لا أدب، وعلوم لا علم.
أما (الثقافة) فجاءت مفردة بالنظر إلى أنها اسم جامع لكلّ ما يتلقّاه المرء من معارف وعلوم وآداب وفنون؛ فهي دالّة على الجمع بذاتها، ولا داعي لأن يقول (ثقافات)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشمل لفظ (الثقافة) في الغالب ما يقدّم إلى غير المختصّين، فقد كان من أهداف المجلة- كما أبان مؤسسها- أن تكون وسيلة لنهضة الشعوب وإصلاحها.
علمًا أن هذا العنوان الجانبي أخذ عدّة تشكيلات لغوية في مسيرة المجلة، ولكنه لم يخرج عن هذا الإطار غالبًا سوى أنه حلّت محلّه في بعض الفترات جملة (مجلة العرب الأدبية)، وهي جملة تظهر وتختفي، والمهمّ فيها أنها تُظهِر غاية مؤسّسها ومَن بَعدَه في أن تكون المنهل للعرب كلّهم، ونعتُها بـ(الأدبية) – وإن كانت شاملةً الثقافةَ والفكرَ بوجوهها كافّة- يومئ إلى غلبة الجانب الأدبي على ما يُنشر فيها، وربما أُريد بالأدب هنا مفهومُه القديم، وهو الأخذ من كلّ فن بطرف.
وقد كان حجم المجلة شبيهًا بالكتب؛ وكأن عبدالقدوس آثر لها ضربًا من الصرامة في الهيئة ليكون باطنها كذلك، وظلت عليه حتى غُيّر في الأعداد الأخيرة قبل أشهر، مجاراة للمظهر الغالب على المجلات، وهو مظهر مقبول على كل حال.
ليس من همّي في هذه المقالة الموجزة دراسة مجلة المنهل بوصفها كيانًا ثقافيًّا، بل الإشارة إلى أنها صارت جزءًا من شخصيتنا الثقافية، وسمعتنا الأدبية، وحريٌّ بالجهات الراعية للثقافة والأدب في بلادنا أن تلتفت إليها التفات الدعم والتشجيع والمؤازرة؛ لأني أخشى في زمن الاتصالات الحديثة والتدفق المعرفي الهائل أن يخبو وهجها، وأن تنزوي في ركن قصيّ فلا يعرفها إلا كهول المثقفين وشيوخهم، وأن يغيب اسمها عن الأجيال الجديدة، ثم يعتريها – لا سمح الله- ما اعترى غيرها.
إن الحفاظ على المنهل جزء من الحفاظ على القيمة المعنوية لجهد الرواد، وهو نوع وفاءٍ لرائد لغوي أديب سيظلّ ممن تُعقَد به الخناصر حين يُعدّ الأفذاذ من رجالات البلاد.
والحديث عن المنهل ينبغي أن يطول فليس من حق هذه النبتة الصالحة أن يُمرّ بها مرور العابرين، وأن يُومأ إليها إيماءة العجِلين، ومن أجل هذا كتبتُ مقالة بحثية مطوّلة تقاطعت بعض فِكَرها بما قلتُه هنا، وسوف تنشر عما قريب بإذن الله في المنهل نفسها. والله ولي التوفيق.
- الرياض