هذا عنوان كتاب الأستاذ الأديب عبدالرحمن بن زيد السويداء، وهو واحد من سلسلة أعماله المتفاوتة طولًا وقصرًا؛ ولكنها متفقة في خطّها الجاد وشمولها للثقافتين الفصيحة والعامية، وكنت اطلعت على بعض تلك الأعمال واستفدت منها في أبحاثي، ومنها (النكهة الطائية في اللهجة الحائلية) و(فصيح العاميّ في شمال نجد)، وأما هذا الكتاب فهو نتيجة قراءة مذهلة للتراث الشعري العربي الفصيح وجملة من أشعار المعاصرين المبدعين، انتخب منها الأستاذ عبدالرحمن ما يعبر عن ذوقه الفنيّ، وحسه المرهف، وساقه في هذا الكتاب مرتبًا ترتبًا هجائيًّا، وإن لم يكن هذا الترتيب لازمًا في مثل هذا الكتاب؛ بل لعل موضوع القطعة المختارة أولى في الترتيب، وهو يريد من اختياراته هذه أن يبين مميزات الشاعر التي جعلها عنوانًا تفسيريًّا للعنوان الرئيسيّ للكتاب، إذ سطر تحت العنوان قوله (فنان رائع، رسام بارع، مصور حاذق، نحات ماهر)، إذن فهذه هي السمات التي تميز بها الشاعر، والحق أن للشاعر مكانة عالية في حياة العرب وأثرًا بالغًا؛ فقد كان لسان قبيلته، المدافع عنها، المفاخر بأحسابها وأنسابها، والشاعر بقدراته الإبداعية اللغوية الخلاقة يتجاوز حدود النظام اللغوي بما تقتضيه القيود الشعرية، فكان أن التمس له العذر بما سمّي الضرورة الشعرية، بل بالغ الأخفش في منحه الحق أن يخالف في نثره أيضًا، ولعله يفترض أن نثره سيكون له من السمو وعلو القيمة الفنية ما يوازي الشعر، والحق أن الإبداع الشعري الأصيل يدهش المتلقي بغض الطرف عن المستوى اللغوي أفصيح هو أم لهجيّ، فما زلنا نستمع إلى قصائد لهجيّة ذات مستوى فنّي رائع قد يتفوق على كثير من القصائد الفصيحة.
قدم الأستاذ عبد الرحمن بمقدمة شرح فيها ما أجمله في عنوان كتابه، فتحدث عن الشاعر من حيث هو فنان رائع مشيرًا إلى قدرة الشاعر على تخير ألفاظه ووضعها في مواضعها، وآية ذلك ما نلاحظه من أشعار نزار قباني التي لا تختلف كلماتها عن كلمات الحديث اليومي؛ ولكنّ وضعها بما سماه السويداء هندسة الكلمات هو ما يجعلها شعرًا فاتنًا، يقول السويداء «لو أخذنا بيت شعر ونثرنا كلماته لأصبح كلامًا عاديًّا؛ لكن الشاعر بفنيته وتقنيته يمسك هذه الكلمات يختار الكلمة أو إحدى اشتقاقاتها أو مفرداتها يقدم فيها ويؤخر يبدل ويغير يضيف ويحذف بحيث يضع كل كلمة بمكانها الصحيح»، وما يقوله الأستاذ هنا هو ما حرره عبدالقاهر الجرجاني حين تحدث عن النظم ليفسر الإبداع تفسيرًا نحويًّا بأنّ المبدع إنما يتوخى الإمكانات التي يتيحها النظام اللغوي، وتحدث الأستاذ عن الشاعر بصفته الرسام البارع الذي يستطيع أن يخلق بكلماته المناظر الخلابة، فهو بأوصافه وتشبيهاته وكل طاقات البيان والبديع يرسم من دقائق الصور ما يجعلها ماثلة للعيان، وهو أيضًا مصور حاذق إذ ينقل بكلماته ما قد نألف مشاهدته ونعرف هيأته، فإذا الشاعر الرائع ينقل لنا تلك المشاهد كأنا نراها بأعيننا ولكن على نحو مدهش حيث تصور لنا الكلمات تفاصيل الحدث أو تفاصيل المشهد، وهو نحات ماهر يعرف كيف يسيطر على إظهار تفاصيل الجسد وانحناءات القدّ كل ذلك بأدوات من كلمات، وتطرق الأستاذ إلى ما قد يمتلكه الشاعر من قدرة اجتماعية قد تنقذ الحياة وتدرأ الشرّ، فكلماته التي تأخذ بمجامع القلوب وتلين منها ما كان كالجندل كفيلة بفعل الأعاجيب، والأستاذ يضرب الأمثلة لكل ما يقول، وهي أمثلة يضيق الحيز عن ذكرها فللقارئ أن يقرأها في الكتاب الجدير بالقراءة حقًّا، ويقف الأستاذ قارئه عند أمر مهم هو التشبيهات في لغة الشعر وهو أمر التفت إليه النقاد ونبهوا إليه؛ ولكنه يتوجه به إلى الشباب الذين قد لا يدركونه وقد صرفتهم حياة العصر عن قراءة الأشعار أو استماع الشعّار، فالشاعر قد يشبه المرأة أو أجزاء منها بما هو أدنى منها جمالًا من عناصر البيئة البدوية كالظباء أو المها، وإن المتأمل ليدرك قوله ولكن الاستعمال اللغوي عجيب؛ إذ تلك التشبيهات وما تتضمنه من مفردات إنما هي مثيرات لصور مفارقة لما تشير إليها؛ فهي إنما تثير من الصور التجريدية الخيالية ما يفوق الحقيقة، ولو نظرنا إلى لغة الشعر نظرنا إلى اللغة الإشارية لنفرنا متلك الصور التي ينقلها لنا من مثل قول امرئ القيس:
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوبِ السقي الْمُذلل
وَتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَـثْنٍ كأنّهُ
أساريعُ ظبي أو مساويكُ إسحلِ
فأي جمال في تشبيه الساق بالأنبوب أو أنامل المرأة بالدود أو المساويك، جاء في معجم العين «واليَسْرُوع والأسروع: دودٌ تكون على الشوك والحشيش»، ولكن الذهن يتجاوز ذلك إلى ما تثيرة الصورة من مثالٍ خياليّ.
ضمّ الكتاب مقطوعات قصيرة ممتعة عبرت عن ذوق الأستاذ وسعة اطلاعه على التراث الشعري الغزير، ودلت على حسن تخيره، فبارك الله جهوده ووفقه.
- الرياض