Saturday 07/12/2013 Issue 420 السبت 3 ,صفر 1435 العدد
07/12/2013

صمت .. الجزر المعزولة (3)

يتوزع مجتمعنا اليوم في دوائر متشابهة منها ما يعتمد على جذر الأصل العرقي و منها ما يعتمد على جذر الأصل الوظيفي و منها ما يعتمد على جذر الأصل الطبقي ومنها ما يعتمد على جذر الأصل العلمي ومنها ما يعتمد على الأصل الفكري و أشدهم خطورة ما يعتمد على جذر الأصل التكفيري و الإيماني.

دوائر متشابهة حوّلت المجتمع الواحد إلى متفرقات من الأنوات و الآواخر، لأن المتشابه النظير للمتشابه الآخر هو مُفرّق كما رسخّت لفكرتي «التنافر و الإقصاء».

و السؤال هنا هل استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي عندما ظهرت في مجتمعنا أن تُفكك الوعي الاجتماعي من دوائر المتشابهات و تُطّهر جذوره من معايير التنافر و الإقصاء أم زادت المُوزَع تقسيما؟

وقد يرد آخر أن الأصل في عالمية الإنسان هو الاختلاف لا التوافق و بالتالي فإن قيمة التواصل لا تنعدم فاعليتها بجدولة دوائر المتشابهات و المتنافرات و توسعها أو تقلصها.

و يذهب ذلك الرأي أن الأمر على العكس فإن توسع جدولة التشابه و التنافر هما معيار قياس قوة «التواصل الاجتماعي»؛لأنه يُحرر الوعي من «ثقافة القطيع».

لكن السؤال هنا هل الاختلاف يُلغي التوافق؟ و هل التوافق يُصادر الاختلاف؟. سؤالان مرتبطان بإحالة اجتماعية.

و التقابل بالتناقض بين التوافق و الاختلاف غالبا هو تقابل يفتقد إلى الحكمة أو هكذا أعتقد.

كما أنهما يدخلان في باب»الفتنة الرمادية» الجالبة للصراع.

أعلم أن الخلاف هو المقابل المضاد للتوافق لا الاختلاف؛لكن ماهو شائع لدينا هو أن الاختلاف هو النظير المضاد للتوافق، وهو شيوع أضر بحرية الفرد داخل المجتمع،كما أنه شيوع مقصود لإلغاء أي ميل يسعى إلى الحرية و التجديد.

إن تضييع قيمة الاختلاف بدمجها مع حرمانية الخلاف لإنتاج اختلاف يقابل بالتضاد التوافق هو فعل متعمد مع سبق الإصرار مبني على نية «أحادية الاتحاد»

والأمر يبدأ منذ تأسيس الوعي الاجتماعي للفرد؛ القائم على أنه جزء من كل وهو تأسيس أضر بشعور الفرد باستقلاله.

إن فكرة الاتحاد تختلف عن فكرة الأحادية ،فالاتحاد هو الجمع مع إضافة إحساس الفرد بصوته وقدرته، باعتبار أن الفرد «كائن مستقل في ذاته وقراراته»،وأنه القادر على صناعة طريقه في الحياة.

و الاستقلالية لا تدعم «انفصال» أو «انعزالية» الفرد عن المجموع ،إنما تحمي الفرد عن «التذوّب مع المجموع»،تحميه من فكرة «القطيع»،كما أن فكرتي «الثنائية» و «التحزّب» ليستا من نتائج «الاستقلال» بل هما من أثار «جبرية التلّحف بأصواف القطيع».

في حين أن الأحادية هي الجمع مع طرح قيمة الخاصية التي تميز كل فرد، و التي تُكسبه القدرة على الإنجاز ،وبذلك فالأحادية تُشجع على التكاثر من خلال الاستنساخ و ثقافة القطيع.

و يزيد ذلك التأسيس ترسيخا عبر قدسية «الأبوية» الأبوية ليست مركزية السلطة و القانون و التوجيه فقط إنها أيضا آلية لإفراغ الفرد من محتواه الاستقلالي إفراغا يهيأ الفرد ليصيح عاكسا لدستور الأبوية،وتزداد قدرة الأشياء على الانعكاس على الآخر أو عكس الآخر عبرها كلما أتسع وأصّقل إفراغها وفي ذات الوقت تيسر استعمار الكلي للجزء.

يرتبط إحساس الفرد بأهمية ذاته كلما ابتعد عن تأثير مدونة مُؤسِسات الوعي الاجتماعي وقوانين دستور الأبوية، والعكس صحيح كلما ضاقت المسافة بين الفرد و مدونة مؤسسات الوعي الاجتماعي و الدستورية الأبوية اقترب من حالة الدمج مع الكلي.

أما ما الذي يتحكم في حالتي الابتعاد و الاقتراب فهناك أربعة أمور هي؛ طبيعة المجتمع، فالمجتمعات ذات البنية الأحادية تدفع الفرد إلى الدمج مع الكلي مثل مجتمع العشيرة و القرية.

في حين أن المجتمعات المتعددة البني وهي المدنية و المختلطة فهي تدفع الفرد إلى الاهتمام بالإحساس بذاته و البحث عن استقلاله.

و الأمر الثاني هو المستوى التعليمي للفرد فالأمية تدفع الفرد إلى الدمج مع الكلي،في حين أن التعليم يدفع المرء إلى الاستقلال عن الكلي.

والأمر الثالث هو وسيلة التعبير فكلما تعددت وسائل التعبير اتسعت قدرة الفرد على الإحساس بذاته و أهميتها وسهولة التعبير عنها؛لإمكانية ممارسة لعبة الاختباء و الاختفاء،وكلما ضاقت لحدّ القطبية تراجع صوت الذات واختفى لإمكانية البث المباشر والانكشاف الواضح مما قد يُعّرض صوت الذات للعقاب و الانعزال الاجتماعيين.

والأمر الرابع هو طبيعة الثقافة التي يؤمن بها الفرد ومنها الثقافية العشائرية و الثقافة العرقية و الثقافة الطائفية و الثقافة القومية و الثقافة العلمانية و الثقافة الليبرالية.

وكلما توسعت ثقافة الفرد تعمق إحساسه بذاته و أهميتها، وكلما تقلصت ثقافة الفرد ضاق إحساسه بذاته و ُسهل تدميجه مع الكلي.

إن فكرة التدميج مبنية على «فاعلية الالتزام» وهي فاعلية حاصل وجوب تصديق التصور الداعم بأولوية الكل مقابل الأنا/الجزء و»إنك بذاتك لا يُمكن أن تُشكل تأثيرا» و «أنت مع الكل تُشكل تأثيرا»، ولذلك تغيب ثقافة «الرمز أو البطل» في المجتمع إن هذا الحقن المركّز لتهميش ذات الفرد مقابل تقديس الكل؛ولعل لهذا النهج تفسيره الذي يذهب إلى أن ضمان الكل للفرد بتحقيق استقلاليته عبر اكتشاف أهمية ذاته قد يسقط فيه «شبهة تأليه الذات» وهي الشبهة التي أوقعت الأمم في «وثننة الأفراد».

وهذه الفلسفة القطرية للمجتمع هي التي شرعت داخل الفرد حرمانية الإحساس بالذات و الإيمان بأهميته،وهناك تأويل آخر لتحريم الذاتية يتعلق «بأسطورة الأبوية».

فالفردية تتعارض مع الأبوية لأنها تُوجب أقصد الفردية «توازن القوى» بينها و بين الأبوية.

وهذا التوازن بدوره يعني إسقاط «قدسية الأبوية»؛لأن الأحادية غالبا هي الداعمة للقدسية لكن الثنائيات و التعدديات مُلغِية لحالة القدسية،وهكذا كلما توسعت قمة الهرم تساوت المراتب.

إضافة إلى ذلك فإن إدخال الأبوية في صراع القوى بالتوازن فيه تهديد لإصالتها و أصوليتها.

ولكل ذلك وجب تحريم اهتمام الفرد بذاتيته والإيمان بأهميتها.

إن من يدعي أن دعم الكلية مقابل تجريم الفردية الذاتية مبنيا على فلسفة «البنيان المرصوص» هو ادعاء غير صحيح أو هكذا أعتقد،لأن «فلسفة البنيان المرصوص» تقوم على واجب المساواة و صحة تمامها في المجتمع بين الجميع و هي بذلك تنفي فكرة «الهرمية الدستورية» في البناء الاجتماعي. لا «الهرمية الوظيفية».

لقد أفسدت نظرية القطرية الاجتماعية و الأبوية المقدسة وعي الفرد بذاته و الإيمان بأهميتها و فاعليتها وهو ما انعكس على دوره في المجتمع الدور الموسوم بصفة السلبية، سلبية حولته إلى كائن مسلوب الرأي و الرؤية و متطرف الرأي و الرؤية،فالسلبية ليست فراغا فقط بل هي أيضا المحتوى الهادم.

والجانب الأخطر من هذه المسألة هو أنه عندما جاءت الفرصة للفرد لدينا بأن يؤمن بذاته و تفعيل أهميتها عبر مواقع الاتصال الاجتماعي اكتشفنا الكارثة.

لقد قسمت مواقع التواصل الاجتماعي المتلقي إلى قسمين،القسم الأول داعم لِم تربى عليه وعيه بأن الكل أهم من الجزء،وأن الاهتمام بالفردية محرمة باعتبار استباقي لحماية الأفراد من الوقوع في «تأليه الذات» و «وثننة الأفراد».

والقسم الثاني هو الكارثة و هذا القسم هو الرافض لقانون «الكلية» و التوقيع بالمصادقة على وثيقة الأبوية و تجريم الفردية الذاتية.

والكارثية ليس لرفضه المصادقة على قدسية الأبوية و رفضه لقانون القطرية الكلية؛إنما الكارثة لمجهولية البديل الذي يملك قبوله أمام رفضه للتقليدية، وهذه المجهولية كارثة في ذاتها لأنها تدل على «صفرية محتوى» الرافض أو المتمرد أو الثوري على التقليدية الاجتماعية.

«فأنا ضدك لأني لا أؤمن بمبدئك ولا مبدأ لي» هذه هي الكارثة «أن أكون ردة فعل فقط» لا أملك فعلا أو رؤية ،إن الرفض لمجرد الرفض لا يعني الارتفاع بالذات الفردية عن التدميج الكلي بحرية الاستقلال، إنما يعني السقوط في غموض مجهولية العزل والانعزالية.

وهو سقوط حاصل ردة الفعل القوية لانتقال الفرد من عمومية قطرية الكلية الاجتماعية و سلطة الأبوية اللتين ظلتا مهيمنتين على الوعي الاجتماعي و مؤسِساته إلى خصوصية الذاتية الفردية ومُؤسِسات وعيها.

إن الفرد الذي تعوّد الوجود و التواجد من خلال «قطرية الكلية الاجتماعية» عندما جاءت الفرصة ليثبت وجوده و تواجده من خلال»قطرية ذاتيته الفردية عبر الاستقلال» فشل في التخلص من الكلية عبر الاستقلال و ظن أن جبرية الانعزالية عن القطرية الكلية تُعادل حرية الاستقلال،وأن الصراخ باللعنات في العتمة يخلق استقلالية الرأي و الرؤية.

وذلك الظن هو الذي دفعه إلى ممارسة لعبة «الاختفاء و الاختباء»عبر المُستتِر الداعم لتجويف المجهول و الصفة،وكما أن التعريف دليل الاستقلال فالتنكير دليل الانعزال.

وبذلك رسخت الفردية الخارجة على جلباب الأبوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطرف المُوزَع تقسيما و تفريعا و عنفيتها الأسلوبية.

إن إيمان الفرد بحرية استقلاله وكيفية صناعتها ليس بفعل لازم إنما هو فعل متعد فنحن نتعلّم ما نؤمن به،كما نتعلّم ما ينبغي أن نؤمن به، لذلك فقدرتنا موروثة و عجزنا كذلك موروث.

إن المسألة هاهنا تتعلق بعجز القدرة أكثر من متعة الرغبة،عجز الفرد عن كيفية صناعة حرية استقلاله بعيدا عن هيمنة و تاريخ قطرية الكلية الاجتماعية و تقاليده، والنتيجة أنه خلط حقا بباطل ففرض على نفسه عزلة بنية حرية الاستقلال ،فما كان منها و منه سوى «صمت الجزر المعزولة».

- جـدة