حين زعم الإيطاليون أن الترجمة «خيانة النص» نسوا أن يزعموا أيضاً أن ثمة ترجمات لا يمكن فهمها إلا بخيانتها! تلك الترجمات التي لا يجب أن يُعْكَف لها طويلاً على المعاجم، وإحصاء المترادفات والصيغ في الأنظمة اللغوية وسياقاتها، وحوادث السير المتكررة حين تصطدم المصطلحات بالمصطلحات ولا تجد منقذاً ولا رفيقاً على ضفة اللغة الأخرى، إلا بعد بذل قصارى الصبر والعمر! ثم تقضي الوقت بعد ذلك في لعبة (xo)!! بالمناسبة لست أتحدث هنا عن الترجمة ولا عن أنواعها ولا نظرياتها المفخخة. ولا عن خيانة المترجم التي ربما قصد بها الإيطاليون؛ (تشويه النص) بمعنى (عدم أمانة النقل). وليس تتبُّع البنية الجُمْلية حذو الحرف بالحرف، دون تصرف يتدخل في الوقت المناسب، أتحدث عن الترجمة المضمرة المعدة فورياً في ذهن المتلقي، وعينه وحواسه الخمس والحواس المكتسبة. أي نص حياتيّ بصريا كان أو سمعيا، في كل مداخل الحياة. حين أقرأ نصاً بلغته الأصلية،
و لم يطلب مني كتكليف منزلي مثلاً، فقراءتي له بعينيّ والانتقال السلس من فقرة إلى الأخرى، ترجمة صامتة قامت بها
و(بخيانتها) أدوات الترجمة التي استُخْدِمتْ في هذه الحركة البسيطة. الأمر نفسه حين الاستماع إلى نص مسموع . تؤدي الأذن والإدراك اللحظي هذه الترجمة الآلية الفورية بصمت. فحين معزوفة مائية لـ(ياني) مثلاً، أو قطعة (لتشايكوفسكي) أو حتى لـ (مِجَس حجازي) فإنني سأخونها مراراً لتصل إليّ قبل فكرتيهما وبعدهما تفسيراً وتأويلاً، بعكس الكتابة/الترجمة النصية من (لغة) أخرى، وليس أي معطى آخر، والتي يجب ويجب ألف مرة فيها حضوركل هذه المُدْرِكات؛ دون كبير خيانة لأنها/الكتابة المجسِّد النهائي (المتحدث) لهذه الدورة العقلية الصامتة. وهو ذات الشيء أيضاً حين أقف أمام لوحة سُريالية باذخة الغموض. أحتاج لترجمة من ذات النوع والجدوى بشكل مختلف؛ لأنها لا تعتمد على خزين الذاكرة اللغوي، وإنما على خزينها اللوني وثقافتها في هذه الحلقة والإحساس البصري بها أولاً، ومن ثم معجمي الخاص في ترجمة هذا النص اللوني. وخيانة صاحبها تأويلاً وتفسيراً أيضاً وبأبعاد طويلة. والتي لن يستطيع فعلها السيد (Google) بالتأكيد! الشيء الذي يعجزه. فالكمال لله دائماً، ولا بأس أن يخفق هذه المرة علاوة على إخفاقاته النصية المضحكة!! مما يعني أننا في حالة دؤوبة من الحركة الترجمية اليومية تلقياً وإرسالاً، بالمعطيات التي تتيحها الأشياء بشكليها المُدْرَك والمحسوس.
لم أنس حين قالت لنا الدكتورة في أول محاضرة في قسم الترجمة:» الحياة ترجمة» وأقول الآن: إنها كذلك بطريقة أو بطرق أخرى، لكن هذا ما مرّ بقرب البال والفكرة الآن.
أخيراً: أردت أن أقول بعد هذا المرور السريع للسادة الإيطاليين: أن الخيانة في الترجمة هي خيانة الأمانة في (المعلومة) وفكرة المؤلف الأصلي، ما عدا ذلك فهو مباح متاح، حيث إنني من أنصار الترجمة الحرة، التي تقبل أوجه التصرف في حدود اللغتين، والتي يجب في نظري أن تلتزم (حرفية الفكرة) فقط. دون إسراف ولا تقتير ولا خطأ ناتئ، أما ترجمة نص الحياة المفتوح ولونها اليومي فهو أولى بهذه الخيانة التي تتم بنا وبحواسنا المكتسبة.