(1)
لا يعني فوز الكندية أليس مونرو بجائزة نوبل للآداب، مؤخراً، عن مجمل أعمالها القصصية لا يعني بأي حال من الأحوال، ارتقاء هذا النوع الى التمجيد والاهتمام، وربما تهافت دور النشر على كتاب القصة القصيرة. مونرو القاصة الكندية، صاحبة باع طويل في هذا المجال، وتكاد تكون محليتها بسببه. غالباً، لا يعترف الأدب العالمي بسطوة القصة القصيرة، كما أنها محدودة الانتشار لأسباب تقنية بحيث إنها تقف على ثيمات وقفشات تخص الثقافة المحلية أكثر ما يمكن لها أن تتمكن من الشمولية العالمية. كما أنها مساحة ضيقة للوعظ البسيط. أي على عكس الرواية التي فيها مساحة واسعة ومجالات تمكنها من اقتناص موضوعات تعبر عن أحوال تصيب لاوعي قراء في أماكن بعيدة. مع هذا، فإن مونرو البارعة في كتابة القصة القصيرة منذ أوائل الخمسينيات حصدت نوبل على أساس أنها أفضل من يكتب القصة القصيرة عالمياً.
لكن، من يقرأ القصة القصيرة اليوم؟ من هم كتابها؟ كم عددهم؟ أجول بين أسماء كتاب فرنسا فلا أكاد أعثر على اسم واحد. هؤلاء منذ بلزاك وهم يعتبرون أنفسهم ملوك الرواية. حتى قصص مونرو التي ترجمت الى الفرنسية لا أحد يعرفها، قرؤوها قلة قليلة. بحيث أجبرت دور النشر التي ترجمتها بداية على أساس أنها مشهورة في العالم الناطق بالإنكليزية على التراجع عن ترجمة الأعمال الجديدة لصالح دور نشر صغيرة وغير مؤثرة.
والحال، أن الغبن الواقع على القصة القصيرة، لا يمكن تجاوزه أو معالجته بجائزة مردودها شخصي جداً على صاحبها. القصة القصيرة تكاد تنقرض فعلياً وهذا الانقراض لا يتم علاجه بالجوائز بل بالتحفيز بإعادة الروح الى نوع انقرض لم يعد مغرياً أو جذاباً للكتابة. حتى إن البعض يعتقد أن دفع بعض المال من أجل حفنة قصص قصيرة خسارة محققة وفعلية تماماً كما يحصل مع الشعر. في حين أنه مع الرواية أمرٌ مجدٍ ويستحق. أتحدث عن الكتاب في الغرب وليس في العالم العربي، هنا الكتب أسعارها مرتفعة جداً ومع هذا لا يتوقف الإقبال عليها، لكن، لا يتحمل عناء دفع مبلغ من أجل حفنة قصص سوى المتخصصين في هذا النوع إضافة الي حفنة من الهواة. لا يمكن دفع مبلغ كبير وإنهاء الكتاب بنصف ساعة من القراءة ومن ثم ركنه على الرف.
على هذا ربما كان الأجدى إقامة خطط مدروسة جداً من قبل الأندية الثقافية والوزارات لإنعاش هذا النوع الذي يقترب من الانقراض. لا أدري ما هي هذه الخطط وكيف تنفذ. ربما في أنشطة المدارس وتحفيز الأطفال على كتابة القصص لمن يرغب منهم. وربما في إقامة أمسيات وجوائز وغيرها.
بالعودة الى أليس مونرو، ليست المرأة نكرة، أي أن بعض العالم الثقافي العربي، بعضه، دهش عند سماعه اسمها. وهي لم تترجم الى العربية نهائياً. على عكس الثقافات الأخرى التي وإن ترجمت ولم تلق رواجاً، إلا أنها ترجمت ودخلت في البيبليوغرافيا الوطنية للثقافة التي ترجمت لها. المستغرب أن المغازين ليتيرير الفرنسية كانت قد نشرت في عددها لشهر آب الماضي تحقيقا مطولاً عن العشرة أصوات الكبيرة والمؤثرة في الثقافة العالمية ومن ضمن هذه الأسماء كانت أليس مونرو وأورهان باموق دون ذكر لأي صوت ثقافي عربي. أين العرب؟
(2)
مضى وقت على نوبل، غير أن المسرحية الثقافية المتكررة كل عام في الصحافة الثقافية العربية، ستعاود نفسها، مرة ثانية في العام المقبل ستجندُ الأقلام لخدمة (طاغية الثقافة) علي أحمد سعيد إسبر - أدونيس. ستقام حفلة من المدائح التي تشبه تماماً، في جوهرها وشكلها، مديح أحد نواب البرلمان السوري - الصُوَرْيّ - الذي قال لبشار الأسد أنت لا تستحق ( فقط قيادة سوريا بل قيادة العالم ). سيهدر الحبر في تعويمه كمثقف، يستحق الجائزة العالمية ودخول التاريخ. سيقال كلام كبيرٌ في أحقيته لها، وسيذهب البعض للقول: إن الجائزة ستتشرفُ وترتفع به، وأنه ليس بحاجة لا لنوبل ولا لغيرها ليحجز كرسيه في التاريخ. هذا الكلام يكتب ويقال ويعاد كل عام دون خجل أو استحياء.
ربما الذين يكتبون كل هذا الكلام، إنما يكتبون قناعتهم بأدونيس كشاعر ومفكر وعامل في حقل الثقافة منذ أكثر من نصف قرن. وربما هم يتملقون للرجل الذي يمكنه أن يرفع من شأنهم بمجرد مديحه لهم في أماكن معينة أو أن يكتب عنهم ( كتب مرة مقدمة لديوان شاعر ورجل أعمال حجازيّ لقاء مصالح معينة. لكن هذه المقدمة نفخت بذلك الرجل الى حد إعلانه مرةً عدم اعترافه بشاعرية محمود درويش ). نعم، نفخته مقدمة أدونيس الى هذا الحد. مريدو أدونيس كثر بلا شك، وهو يتعامل مع هذا الأمر، ليس بكونه أمرا اعتيادياً، بل باعتباره، إن جاز قول ذلك، تشكيل عصابة من الكتبة وعمال وفلاحي الثقافة. وثمة من يكتب عنه لأنه حقيقة مقتنع بأهميته ككاتب وعامل معرفة. ومنهم من يقول إن أدونيس حصل عليها من كثرة ما كتب عن حقه بالظفر بها. غير أن ما يغيب عن كل هؤلاء أن سؤال الجائزة التي يستميتون وهم في مكاتبهم من أجل منحها له، هو أولاً سؤال أخلاقي قبل أن يكون سؤالاً حول قيمة الأدب الذي بلا شك يتم اختياره وفق معايير رفيعة جداً.
بقي أدونيس يتغزل بالغرب منذ وطأت قدماه أرض فرنسا 1986. وهو بلا شك، حصل على العديد من التكريمات والجوائز المتفرقة الصغيرة والكبيرة. لكنه لم يحصل علي جائزة أساسية لها حضورها في الثقافة الغربية كجائزة غونكور التي تمنح للكتّاب الفرانكوفون ولا حتى لجائزة الترجمة رغم أن كتبه ترجمت الى الفرنسية. كما لم يحصل على الجائزة الموازية لها في اللغة الإسبانية جائزة أمير أستورياس. لكن لنسأل لماذا؟
لطالما لم يفصل الغربيون شعر أدونيس عن موقفه السياسي من الأحداث التي تجري في العالم. لقد تغزل أدونيس بالثورة الخمينية منذ بداية انتصارها، في قصيدة رائعة، صبيحة انتصار الخميني على الشاه قال فيها ( وجهك يا غربُ مات ). وحتى رغم قوله في كثير من الأحيان. أنه أيدّ الثورة كمنجز شعبي للشعب الإيراني وأنه يتحفظ على كل ما عدا ذلك. رغم هذا، فإنه كان يعرف أنها ليست ثورة شعبية قدر ماهي ثورة قام رجال دين معروفون بتشددهم، والأيام أثبتت أنهم أخذوا إيران التي كانت إمبراطورية ذات حضور ثقافي وسياسي بارز الى الانعزال والتقوقع والانهيار الاقتصادي المريع الذي تشهده حالياً. أين انتصار الشعب إذن؟ لا ندري؟ لكن ما ندريه أن موقف أدونيس منها لم يتغير.
المؤسف، أن أدونيس نفسه. لم يتعظ على ما تبينه الأحداث السياسية العاصفة التي يشهدها بلده سورية. فبدل أن يناصر ثورة الشعب السوري الذي انتفض بعد سنوات من الصمت والقبض على الجمر بسبب القمع الاستثنائي الذي يمارسه النظام الأسدي - البعثي البوليسي، يقف أدونيس منذ بدء الثورة، وبشكل مفاجئ الى جانب النظام، الذي عمداً، بدأ بقتل أفراد الشعب بعد حادثة درعا. ورغم أن أدونيس دعا الرئيس السوري أكثر من مرة الى الحوار، ثم قدم مبادرة للنظام لحل الأمر بشكل أو بآخر. لكنه كان دوماً يقدم مبادرات لإبقاء النظام وديمومته دون أن ينظر ولو بعين مثقف إنسانوي الى دماء آلاف الضحايا. ماذا يبقى من كل القصائد التي كتبها أدونيس عند قراءة موقفه من شعبه الذي يستباح بكافة الأسلحة المدمرة. ماذا يقول بينه وبين نفسه؟ هل يغضب؟ هل يترحم على الأطفال والنساء والشيوخ؟ ماذا قال حين قصف الأسد الغوطة بالكيماوي؟ هل شاهد صور الأطفال وهم ممددون كالملائكة على الأرض؟ ماذا كتب ماذا قال؟ لا شيء.
(3)
بالعودة الى السؤال الذي تطرحه نوبل أخلاقياً، لقد منح الكثير من الكتاب في السنوات الأخيرة الجائزة ليس فقط لأنهم كتبوا أدباً عظيماً ومميزاً فقط. بل لأنهم كانوا ضمير الضحايا الذي قتلوا بغير ذنب في حقب مختلفة. ألفريدة يلينيك فعلت ذلك أورهان باموق فعل أيضاً أليس مونرو كتبت عن الهنود وحقهم بالأرض والحياة. ناضلت ولو من خلال القصص.
لكي تصل الى نوبل عليك أن تكون ضمير القتلى لا صوت القاتل.