تنثال الصور بعفوية وبشكل سلس في المجموعة الشعرية الجديدة للكاتب محمد خضر»منذ أول تفاحة» الصادرة عن نادي أدبي الشرقية للعام 1435وكأنها أحاديث سمر بين صديقين مشحونين بطاقة حنين ورغبة تذكر، إذ تتلبس نصوص المجموعة بغواية الحنين للماضي، والرغبة في استدعائه، والانشداد لسطوة المكان الذي يمثل مسرحا للذاكرة.
يطالعنا ذلك عبر جملة من نصوص المجموعة»صورة عائلية»،»الوراثة»،»بعدما»،»أبها»،»ماتركته الريح»،»حب»،»كأننا لم نكبر يوما»،»ضد النسيان»، المشغولة بفنية، وعاطفة صادقة، فجرت شعرية اللقطة، وساعدت في عفوية انثيالاتها.
فنص»صورة عائلية»،يصور برهافة لحظات تماس اللحظة الراهنة بلحظات الماضي الجميل المحبوسة ضمن إطار صورة العائلة، وما يتولد عنها من شحنات، ودفق شعوري. يقول النص»الصورة التي تركت لأعوام عديدة بجانب النافذة، ثم انتقلت من غرفة إلى غرفة حتى اختفت تماما في سحارة العائلة»، ويسترسل بعدها في رسم مظاهر الاحتفاء بالذكريات التي تختزنها الصورة « تلك التي زينها الإخوة بإطار خشبي عندما كبروا قليلا، وراحو يلمعون زجاجها كلما هب الحنين..»، ومن ثم يتجه النص لحالة من التوغل في رسم واستدعاء تفاصيل ذاكرة الصورة التي شرع في اطلاق شرارتها الأولى مطلع النص»الصورة التي جمعتنا معا ونحن نغلق ياقاتنا ونبتسم غير آبهين..» حيث نزعة الحنين للماضي نابعة من حنين لزمن خال من المكدرات، زمن الطفولة بكل تفاصيلها الصغيرة، بيد أن هذا الحنين الجارف لايخلو من رغبة فرار من لحظة آنية وواقع حاضر!
في إشارة إلى أن الطفولة تبقى الجنة الوارفة التي يظل المرء يستلذ بالهرب إليها من منغصات الواقع. وفي نص»أبها..إلى روحك أبي»، يتفاقم الحنين، وتعلو نبرة سطوة المكان عبر الاشتغالات الشعرية للنص. فالذاكرة «تقف على أطراف المدينة وحيدة وحيرانه تارة، وتارة بزركشات ومواعيد مؤجلة. ومع ذلك لايزال العمر يمشي بكبرياء العدو حاملا في جيبه كل الأسماء، الأماكن»، بيد أن الذاكرة التي أمطرت غيماتها لاتلبث أن» تغلق أبوابها إلى الأبد»، وهنا تبرز فكرة القطيعة مع الماضي كفكرة مروعة.وكأن مطلع النص التالي له»ص.ب» جاء ليخفف من وقعها النفسي على المتلقي مبرزا صورة تداعيات القطيعة ومايترتب عليها من حالة تيه وشتات» لاعنوان لي.. «، حيث الفكرة تُشهر في وجه القارئ ويتم تعزيزها بما يتناثر بين السطور من أفكار مؤنبة»في فكرة شاردة عن قطيعها..»، و»تلك القرى النائمة في تلالها /وهذا الشتات الذي يستدل علي/ عنواني..هذا الضياع الجميل/عنواني ليس أكيدا ولا محددا». ونجد أن نص»بعدما» أيضا، يتفتق هو الآخر عن نفس ثيمة الحنين والذكريات «عادوا..بملامح أقل وذاكرة مثقوبة الذين تكاتفوا مع الغياب../فحصنا الحنين والخاطر فيهم../فاحت رائحة الذاكرة».
البيت/ العائلة. دعامتان ينهض عليهما بناء العديد من نصوص مجموعة صاحب»المشي بنصف سعادة»، والذي يسرب عنوانه هذا من جديد هاهنا بين سطور نصه»امرأة لم تذكر برجها»، وفي هذا العنوان نلحظ كيف تحضر مفردة الذاكرة بسطوتها الواضحة في بنية النصوص وإن كانت تحضر بصيغة النفي والحسرة وعدم الرضا هذه المرة، لذا يأتي النص التالي بعنوان أشبه بمصل معالج يضمن حضورا أكثر بقاء وجلاء للذاكرة»ضد النسيان»، كما يأتي مطلعه مبطنا بأمنية عدم التذكر لما لها من تبعات. إذ يقول فيه»لو أنه لايتذكر/بل ينهمر كنسيان خام..».
وتبقى ثيمة الذكريات تحوم من نص إلى آخر تحط في عنوان نصا تارة وتهيمن على فكرة نص تارة أخرى، المهم أن تحضر بكل تلوناتها وقابلياتها للتشكل: الحزين،المفرح، المحايد، الحلو، المر، المدين، الرافض.. ومن خيوط الذاكرة أيضا تنسل ذكرى سائق حافلة المدرسة التي رغم دراميتها تتبدى كذكرى محايدة تمرر فكرة أكثر استحواذا وحضورا عبر العنوان» كأننا لم نكبر يوما»، ومن جهة أخرى تحضر الذكرى الحلوة عبر نص»حب»، «في الذاكرة: الشارع الذي سميناه أول الوله..المدينة التي خبأتنا في ركن صغير». وتتفاوت درجة حضور الذكرى في النصوص بين فكرة مسيطرة على أجواء النص كما في العديد من نصوص المجموعة، وبين فكرة عابرة كمحطة انطلاق لفكرة النص الرئيسة كما في نص»الوراثة»قال الجد حكمته للابن الأكبر الابن نقلها إلى الأولاد..».
ولأن الحنين محرك قوي لأفكار العديد من النصوص فحتى الفراشة تعاني من لواعج الحنين للطبيعة بعد أن وجدت نفسها حبيسة بيت في أول نص تطالعك به المجموعة»الحرية»،»لم تعد تذكر لون السماء تماما..ولاتفرق بين الجدار والفضاء لذا تتعرف الصباحات من حنين في القلب».
وفي المجمل فإن نصوص المجموعة ذات الشعرية النثرية والإيقاع الداخلي تغمرالمتلقي بموسيقى داخلية، كما توقعه في غواية الذكريات والحنين منذ أول تفاحة/ أو منذ أول نص.