(أ)
ليس مصادفة هذه الاضطرابات والإنهاك الذي تمرّ به دول المنطقة العربية والجوار: (التركي، الإيراني، الإسرائيلي)، ولا يأتي هذا الإنهاك قفزاً فوق تفاصيل الواقع، فالواقع الشرق أوسطي منذ بدايات ترسيمه جغرافياً - سياسياً وهو متورّط في (نزاعات وصراعات) داخلية وخارجية، ذلك لأن الاستقرار لم يترسخ على مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على المصالح المشتركة وليس المصالح المتعارضة؛ وشتّان بين مصالح تربط مكوّنات الدولة المتنوّعة، وكلّ دولة ذات تنوّع عرقيّ وطبقيّ وفكريّ وسياسيّ، أو غيرها من التنوّعات التي تفرز تضارباً في المصالح ما لم تؤسّس تبعاً لإستراتيجية المصالح المشتركة الاستيعابية؛ بينما إستراتيجيّة المصالح المتضاربة تؤسّس لمصلحةٍ فئويّة تستأثر الدولة ولا تلتفت لمصالح المكوّنات الأخرى، وهي الإستراتيجيّة التي تبقى دائماً ورماً يُهدّد السلم الأهلي ووحدة الدولة. لذلك فإنّ إدارةَ أيّ دولة تحت إستراتيجيّة المصالح المتضاربة، أو عدم قدرة الساسة على تحويلها إلى مصالح مشتركة عاملٌ في عدم الاستقرار السياسي لهذه الدولة.. وهذا ما يفسّر تعرّض المنطقة لاهتزازات واضطرابات عند أصغر أزمات سياسيّة أو اجتماعيّة بغض النظر عن قوّتها.. واستقراءً لمحطات اضطرابيّة عديدة فإنّ العامل المشترك فيها نلاحظه في فشل ممثّلي هذه الدول في إدارة مفاوضات تفضي إلى تسويات سلميّة متينة.. فأصل في مفهوم الدولة الحديثة يتأسّس على قيام الدولة بشرعنة المصالح المشتركة لمكوّناتها والحفاظ عليها، فما كانت الدول الغربيّة أن تتوصّل للاستقرار السياسي إلا عبر سلسلة من إدارة تفاوض المصالح المتضاربة وتحويلها إلى مشتركة، قدّمت عبرها العديد من التنازلات وحصلت بمقابلها على تسويات واقعيّة أسّست لقاعدة صلبة من المصالح المتشابكة، بحيث إنّك تحافظ على مصالح الآخرين لأنّها متداخلة مع مصالحك.
(ب)
ولأجل إدارة مفاوضات بطريقة واقعيّة وصولاً إلى تسوية قابلة للتحقّق، فإنّه يجدر التفريق بين إدارة التفاوض حول (الصراع)، وإدارة التفاوض حول (النزاع)؟ فثمّة فارق بينهما يؤثّر في متطلّبات التفاوض؛ وقد يتساءل قارئٌ أيّ قيمة واقعيّة ذات نفعيّة تظهرها قراءة المصطلحات المتشابهة في جدل يخلّص الفكر والواقع من شرك المترادفات والحالات المتشابهة، وإلى أيّ مدى يتجاوز هذا الجدل حدود اللغة والفكر ويتّجه إلى الواقع وقوانينه؛ ولعلّه من الضروري على الباحث في المصطلحات المتشابهة -والمتداولة تحت تأثير عمه الترادف والاختزال - أن يضع في حساباته هكذا تساؤلات تتعلّق في علاقة الفكر بالواقع؛ والسبب الذي نتبنّاه يتمثّل في الفاعلية النفعيّة بين الفكر والواقع على مبادئ التأثّر والتأثير بين الطرفين وفي الاتجاهين، فهناك واقع يتأثّر بالفكر، وهناك فكر نتيجة واقع، فأيّ فكرٍ لا يُرتجى منه واقعٌ وليس له أثرٌ أو تأثيرٌ إنّما هو أقرب للمتاهة والتيه منه إلى الفكر، وأيّ واقعٍ لا فكر له ولا يرتجى من وقوعه فكراً إنّما هو أقرب للجنون والفوضى.. فما هو الصراع، وما هو النزاع؟.. وكيف تكون طاولات التفاوض بين الأطراف المتصارعة والأخرى المتنازعة؟
(ج)
ينتج (الصراع) بين أفرقاء متقاربين في القوة، ويكون محلّه: المصالح والنفوذ، ولست تجد في هذا الصراع هدفاً إقصائيّاً مباشراً، ذلك أنّ توازن القوى جعل من طبيعة الصراع أن يكون حول المصالح والحفاظ عليها، فلا يلغي أحدهما الآخر، إنّما يتغذّيان من وجودهما، ويكون في صراعهما ما يحميهما من مخاطر أخرى جانبيّة، وأيّ تسوية للصراعات تُفضي إلى إعادة توزيع المصالح والنفوذ، وهو ما يمكن تداوله في طاولة المفاوضات وترجمته بين أفرقاء ذوي قوّة وتأثير على منافذ عدّة، فما أن تتشعّب المصالح حتّى تعود مرّة أخرى إلى التشابك والتعارض، وعادة ما يتأخّر التفاوض حولها حتّى تستنزف الأفرقاء الذين يمثّلون أطراف الصراع، إذّاك فإنّ طاولة التفاوض تضطّرهم إلى الجلوس حولها، وإعادة رسم المصالح مرّة أخرى، بحيث تحقّق الحدّ الأدنى المقبول والذي لا يحدث تعارضاً، بل اشتراكاً أو شبه ذلك.
أمّا (النزاع) فإنّه يقوم بين أفرقاء غير متكافئين أو متكافئين، ومحلّه (الإقصاء، الملكيّة، الإطاحة، الاحتلال، التحرير..)، ولذلك فإنّ النزاع يهدّد الوجود والهويّة ،وأيّ تسوية للنزاع تُفضي إلى تغييرات في حدود الواقع الجغرافي والسيادي.
ومن الأهميّة هنا الإشارة: أنّ كلا (الصراع والنزاع) يحملان دلالة الديمومة، وليس من طبيعتهما الحسم، الانتصار، الهزيمة، ذلك أنّهما تعبير عن حالة اضطراب دائمة، لذلك فإنّهما يبقيان على فاعلية، ولا يخضعان للهزيمة والانتصار؛ وهو ما يجعلهما متشابهين من حيث كونهما حالة اضطراب أو لا - استقرار، بينما هما يختلفان في طبيعتهما، كون الصراع لا يتضمّن إقصاء وهو بين أكفّاء، وكون النزاع بين أطراف غير متكافئة أو متكافئة يحرّكها أطراف أخرى متصارعة وذات توازن في القوى، أو أن النزاع يكون بين أطراف متوازنة.
من هنا يكون انعكاس التفريق بينهما على الواقع مساهمة في فهم الأدوات والخطط وماهيّة التنازلات المتبادلة التي يستلزم توفّرها في طاولة التفاوض لأجل الوصول إلى غاية التسويّة السياسيّة الواقعيّة، التي من أجلها تنصب طاولات التفاوض السياسيّة، فمثلاً: لا ينبغي أن يدار التفاوض بين إيران والسعودية بالطرق والخطط عينها التي يدار فيها التفاوض بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية!.. فما بين السعودية وإيران صراع مصالح ونفوذ، وهذا محلّ التنازلات المتبادلة بما يضمن سلامة المصالح السعودية وسلامة المصالح الإيرانيّة وعدم تعارضها، وهو صراع لا يلغي طرف بموجبه طرفاً آخر، بينما النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، هو نزاع ملكيّات ينتزع طرف من الآخر مكانه وسلطته ويفضي إلى تغييرات على الأرض، فتسوية النزاع في السودان أفضت إلى إعادة رسم جغرافيا السودان، بينما تسوية الصراع الأمريكي - الروسي حول سوريا مثلاً، تُفضي إلى إعادة توزيع وإدارة المصالح، هكذا يظهر الاختلاف بين دلالات الصراع عن دلالات النزاع فكراً وواقعاً. وعلى ذلك فإن تسوية الصراعات: تعني التسوية القائمة على تحويل المصالح من متضاربة إلى مشتركة، أو إزاحة ما يتعارض عبر تقديم التنازلات المتبادلة الضامنة لحماية مصالح الأطراف المتصارعة.
بينما تسوية النزاعات: فإنّها تعني الاحتكام لسياسة الوقائع على الأرض، والتسليم بالاعتراف بما تحقّق من مكتسبات لأطراف النزاع، وتكون التنازلات المتبادلة عادة بمبادلة الأرض مقابل السلام.
(ج)
على ضوء التفريق بين الصراع والنزاع، والذي يوضّح أنّ التنازلات المتبادلة في إدارة تفاوض التسوية حول الصراع، والتي تعتمد على إزاحة التعارض الناشئ بين مصالح الأفرقاء، ذات متطلّبات أكثر مرونة وقابليّة للتحقّق من التنازلات المتبادلة في إدارة تفاوض التسوية حول النزاع، والتي تتطلّب الاعتراف بإعادة رسم الملكيّة والسيادة بما يضمن حماية الوجود والهوية، وهي تسوية سلميّة ما كان يمكن أن تتحقّق في ميادين النزاع؛ فإلى أي مدى نحن متأهّلون وقادرون على استيعاب ضرورة التنازلات المتبادلة كشرط فاعل في التسويات السياسيّة الواقعيّة؟ وهو التأهيل الذي يقتضي قبولك لمعادلة: (أنتَ وهو)، والانتهاء من محرقة: (أنت أو هو).
وبينما نحن نرى الشرق الأوسط الجديد أصبح ضرورة واقعيّة موجودة على حدود الواقع، وتحتاج إلى طاولات من التفاوض لتسوية شكله النهائيّ، فكأنّ الاستقرار الآن لم يعد ممكناً، ما لم يتبلور الشكل النهائي الجديد، القابع على حدود الواقع إلى حدّ الغليان والاضطراب نظراً لضراوة قوّته في الخروج من الممكن إلى الواقع؛ فكما أنّ هناك دولا عربيّة اليوم قد انفجر السلم الأهلي فيها وابتعدت كثيراً عن مفهوم الدولة الحديثة، فإنّ دول الخليج تتحمّل أعباء سياسيّة وأكلافاً اقتصاديّة نتيجة ذاك الإنهاك والانهيار السياسي والأمني نظراً لحماية مصالحها الإقليميّة وضمانة سلامة محيطها الجغرافي والعروبي، وهي المسألة التي تحتّم على هذه الدول الدخول إلى طاولات التفاوض بما يمكّنها من الاشتراك في إنجاز تسويات ذات مردود يحصّن مصالحها ويحافظ على سلمها وأمنها، خصوصاً، أنّ إيران قد بدأت مشوار التفاوض لإعادة رسم مصالحها بما لا يتعارض مع مصالح الدول الغربيّة؛ فهل الخارجيّات الخليجيّة، وعلى رأسها السعودية مستعدّة للدخول طرفاً رئيساً في هذه الطاولات، محمّلة بسياسات التسويات الضامنة لحماية مصالحها ونفوذها؛ أليس من المخاطر أن تبدأ سياسة التسويات (بين إيران وتركيا، وبين إيران والأمريكيين) على مصالح المنطقة، بينما تغيب أو تتأخّر الدولة الأكثر ثقلاً في المنطقة العربيّة!