حين كنتُ أشتغل - في مرحلة الماجستير - على الرواية النسائية السعودية، توقفتُ طويلاً عند اسم الروائية ظافرة المسلول، لكونه حاضراً على المستوى الرصدي - الببليوجرافي بروايتها «ومات خوفي: مطابع النخيل بالرياض، 1990م» وغائباً على المستويين: الواقعي والنقدي، هذا بالإضافة إلى غياب روايتها عن كثيرٍ من المكتبات العامة والخاصة، ولقد أرهقني البحثُ الطويلُ عن الرواية وعن خبر صاحبتها دون أن يفضيَ بي إلى نتائج يمكن أن أسكن إليها.. فلما انتهيت من الدراسة، وطويت أوراقها، جاء من يبشر بالعثور على الرواية، (أو على نسخةٍ مصوّرةٍ منها)، في الوقت الذي ظلت فيه ظافرة المسلول متلفّعة (أو ملفّعة) بالغياب الطويل!
غيابُ (المسلول) عن الساحة الأدبية والنقدية والصحفية شجّع الثقافة الذكورية على ممارسَة سلطتها، وتأدية أدوارها التقليدية، فظهر خبرٌ (مفصولٌ من السياقات، يُسند عادةً إلى مجهول الحال والذات) يقرِّر أن (ظافرة المسلول) اسم مستعار، يختبئ خلفه أديبٌ يخشى مواجهةَ المجتمع..!
بل ذهبتْ هذه الثقافة إلى أبعد من ذلك فملأت الخبر الشفهي بتحفيزاتٍ واقعيةٍ لا حدّ لها، كان من أهمِّها نسبةُ هذه الرواية إلى رجلٍ محدّد بعينه، هو سليمان الحمّاد، صاحب مطابع النخيل في الرياض (المطابع التي تولت إصدارَ الرواية)، وهنا تكون الرسالة قد وصلت واستقرّت، وتحوّل الخبرُ الكاذبُ إلى حقيقة مسلّم بها، فالرواية صدرت قبل عشرين عاماً ومرّت هذه الأعوام كلُّها دون أنْ يلمسَ أحدٌ وجوداً مادياً للروائية (وهذه - بحسب علمي - حالة استثنائية على مستوى الرواية النسائية السعودية)، والمطابع التي تولت طباعة الرواية هي مطابعُ النخيل، وملكيتها تعود إلى الكاتب سليمان الحمّاد، والحمّاد وجه من الوجوه الأدبية، وسبق أن أصدر مجموعة قصصية (وربما أكثر) قبل صدور هذه الرواية، ولا بدّ أنه تخوّف من المغامرة باسمه في أولى محاولاته الروائية، خصوصاً في مرحلة زمنية لم تكن الرواية فيها متصالحة إلى حد كبير مع السياق الثقافي، فاختار هذا الاسم النسائي، مستغلاً عدم اهتمام النقاد - في تلك المرحلة - بالإبداع النسائي.
كلّ هذه التحفيزات كانت كافيةً لإقناع جمهور لا يحتاج إلى إقناع كبير ليصادر منجز المرأة، فانتقلت هذه الرواية (شفهياً) من ظافرة المسلول - المرأة، إلى ظافرة المسلول - الرجل، ولا يهمُّ بعد ذلك إن كان هذا الرجلُ سليمان الحماد، أو شخصاً آخر...، المهمّ أنّ هذه الرواية سُحِبَت من خريطة الإبداع النسائي، وأضيفت إلى إبداع الرجل، فإن لم يكن إلى رجل معيّن فإلى الهواء.
ما حدث مع هذه الرواية حدث مع روايات أخرى، ليست أولها روايات سميرة خاشقجي في الستينيات، وليست آخرها رواية (بنات الرياض) وروايات زينب حفني في الألفية الثالثة، ونقل اسم الروائية من الحقيقة إلى المجاز، كاتهام الروائية بالسرقة، وكالتحرف إلى سيرذة روايتها أيضاً... محاولاتٌ تشبه بعضها، تتغيا تسييسَ الوجود الفاعل للمرأة، ومحاصرته، وخنقه حتى الموت!
-2-
بعد البحث عن حقيقة اسم ظافرة المسلول فيما بين عامي: 2001 و2006م وجدتُ نفسي بين خيارين: أحدهما: التسليم بالرأي الذي يقول إنه اسم مستعار لرجلٍ هو سليمان الحماد، والآخر: التعامل معه كما لو كان اسماً لامرأة، ولأن النصّ لا يعطي ما يقوّي أحد الاحتمالين، فإنّ الرصد التاريخي لمنجز المرأة الروائي يتطلب من الباحث أن يستبينَ الحقيقة بتفاصيلها، وفي ظلّ تردّدي بين إدراج هذا الاسم في دراستي أو تجاهله، عثرتُ على رسالة علمية بعنوان «لغة الرواية السعودية: دراسة نقدية»، للزميلة د.منى المديهش (صدرت عام 2010م)، وفي المقطع الأخير من خاتمة هذه الدراسة، تفاجأت بالنصِّ الآتي: «أثبت البحث شخصية الروائية السعودية ظافرة المسلول مؤلفة رواية «ومات خوفي» بعد أن شكك بعض الدارسين في حقيقة وجودها، نظراً لغيابها التام عن المشهد الثقافي، وعدم وجود ترجمة لها في كل الكتب التي ترجمت للروائيين السعوديين والعرب، ولا في الدراسات النقدية التي تناولت الرواية السعودية.. وقد توصلت الباحثة إلى الكاتبة والتقت بها، وحصلت منها على ترجمة لها بخط اليد» (ص284).
في المقتطف السابق تظهر المرأة لتنتصر للمرأة، لتحرِّرها من اختطاف الثقافة السائدة، ولتنتزع لها حقها بعد سنواتٍ طويلة من الضياع، ولأن المديهش - بوصفها امرأة أولاً، وباحثة ثانياً - على معرفة بالواقع وتفاصيله، فقد ضمّنت هذه النتيجة أكثر من مستند مهمّ، فأشارت - أولاً - إلى امتلاكها ورقة خطية من الروائية تتضمّن سيرتها الذاتية، ولخط اليد هنا رمزية لا تخفى، ويمكن أن ننظر إليه كما لو كان معادلاً للتوقيع بصيغته المعاصرة، الذي يُعبّر عن الوجود المادي للإنسان.
ثم أشارت إلى مستند أكثر أهمية، ألا وهو اللقاء المباشر بالمسلول (وجهاً لوجه)، وهذا تأكيد يقوم مقام الشهادة أو الشهادة التعريفية في ممارساتنا، ولم أطلع - في حدود متابعتي - على تعريف بأديب أو أديبة يشتمل على مؤكّدين بهذه القوة.
تعرف د.المديهش أن إضافة هذه النتيجة إلى الخاتمة ليس منهجياً، لكنها تجاوزت حدود المنهجية لتواجه انكساراً منهجياً أعنف في التعامل مع المرأة ومنجزها الأدبي.
-3-
في مطلع عام 2010 أعادت دار رواية في لندن نشر رواية (ومات خوفي)، ونسبتها إلى ظافرة المسلول، لكنّ هذه الطبعة الجديدة تضمنت إهداءً لم أجده في النسخة المصوّرة من طبعتها الأولى، وفي آخرة الإهداء كتبت الروائية اسمها الرباعي: «ظافرة حمود المسلول القحطاني» بإضافة اسم الأب والقبيلة..! وإن ثبتَ خلوُّ الطبعة الأولى من هذين الاسمين فهذا يعطي مؤشراً على تحرف الروائية نفسُها إلى تحرير اسمها من مختطفيه، وربطه بما يؤكِّد وجوده، ويعطيه حصانة ومناعة أكبر.. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن إثبات الاسم وتحقيق الوجود قد يكونان الغاية الأولى لإعادة طباعة هذه الرواية بعد عشرين عاماً من صدور طبعتها الأولى.
إن النتيجة التي توصلت إليها د.المديهش، ثم إعادة طباعة الرواية مع توسيع الاسم، تساعداننا على أن نفهم جيداً حرصَ بعض الروائيات السعوديات في مرحلتي التأسيس والريادة على التوسع في إثبات الاسم أو تحقيق الانتماء، فسميرة خاشقجي كتبت تحت اسم يعمِّق انتماءها إلى المملكة (هو سميرة بنت الجزيرة العربية)، وهدى الرشيد اختارت أن تصدر روايتيها «غداً سيكون الخميس 1976م» و «عبث 1980م» تحت اسمها الرباعي «هدى عبد المحسن الصالح الرشيد».
إنها محاولة واعية، استبقت محاولات لا حدّ لها، تهدف إلى اختطاف منجز المرأة عن طريق التشكيك في وجودها المادي أو المعنوي، لذلك عادت ظافرة المسلول إلى الوراء عشرين عاماً لتقوم بالخطوة نفسها..!