* يلجأ الشاعر أو الكاتب كثيرًا إلى توظيف الرمز لاعتباراتٍ فنيةٍ، وقد يلجأ إلى ذلك لاعتباراتٍ سياسيةٍ أيضًا حين تكون الأجواءُ خانقةً والاعتراضُ ممنوعًا والأفواُه مكمّمةً، فلا يجد أمامه سوى الرمز والتمثيل لإيصال فكرته واللبيب بالإشارة يفهم ! وليس ذلك طارئًا ففي أدبنا العربي أمثلةٌ كثيرةٌ لهذا التوظيف الذي يرى د. جابر عصفور أنه أحد آليات «بلاغة المقموعين».
* استعار خليل مطران حادثةَ إعدام بزرجمهرَ للتعبيِر عن استيائه مما حدث للوزير مدحت باشا الذي عُرف بأنه أبو الدستور وبميله للإصلاح في زمن حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، لكنّ السلطان غضب عليه واتهمه بالضلوعِ في اغتيال عمه السلطان عبدالعزيز وحكم عليه بالإعدام ثم خّفف الحكمَ إلى المؤّبد ونُفي إلى الطائف وفيها مات مخنوقًا في ظروفٍ غامضةٍ بحسب «ويكيبديا»، ولم يكن مصيرُ بزرجمهرَ الذي استعاره مطران يختلف كثيرًا عن مصير مدحت باشا، فبزرجمهر كان وزيرًا لأنوشروان وعرف بحكمته وذكائه ولما آل حكم بلاد فارس إلى كسرى غضب منه بعد وشاية حسّاده وأمر بإعدامه أمام الناس وعلى مرأى من ابنته!
* يفتتح مطران قصيدته ببيتٍ يعرّض فيه بخضوعِ أمةِ الفرسِ لكسرى الذي يعبدونه كعبادتهم للشمس وهم لا يترددون في منحه أنفسَهم وأموالَهم وكلَ ثمينٍ لديهم ثم يعلو صوتُ مطران من التعريض إلى التوبيخ القاسي العنيف في قوله:
تستقبلون نعالَه بوجوهِكم
وتعفّرونَ أذلّةً أوكالا
* يحضر مشهدُ الجماهيرِ الخانعةِ التي جاءتْ لتشهد إعدامَ الرجل الذي أنعش البلاد بعدله وعطائه، وعلى أن مطران يعرّض بخنوعها لكنه يصوّر غضبها الذي تكظمه أو تكتمه رهبةً من كسرى، ويدخل الوزير العادل المشهد فيبدو صاغرًا ذليلًا أمام جلاده، وتحضر الثنائيات أو المقابلات في هذه اللقطة لتصور مدى غضب مطران وقسوة الموقف الذي يقفه الوزير على منصة الإعدام:
يبدونَ بشرًا والنفوسُ كظيمةٌ
يجفلْن بين ضلوعهم إجفالا
وإذا الوزير بزرجمهرُ يسوقه
جلّادُه متهاديًا مختالا
* على أن الأهم في هذه القصةِ الشعريةِ، إن صحّ التعبير، شخصيةُ الفتاة التي لفتت نظر كسرى، وكانت النساءُ في ذلك الوقتِ يغطين وجوههن إلا هذه الفتاة التي ظهرت سافرةً، فاستغرب كسرى ذلك وأرسل رسوله ليستطلعَ أمرها ويسألها لمَ لمْ تتقنّع كغيرها من النساء، فيأتيه ردها اللاسع:
مولايَ يعجبُ كيف لم تتقنّعي
قالتْ لهُ أ تعجّبًا وسؤالا
انظرْ وقد قتل الحكيمُ فهل ترى
إلا رسومًا حوله وظلالا
ما كانتِ الحسناءُ ترفع سترها
لو أنّ في هذي الجموعِ رجالا
وكأنها في كشفها وجهها قد كشفت وجهَ الحقيقة السافرة على عدةِ زوايا، بطشُ كسرى وقتله لوالدها دون وجه حق، وضآلة الجماهير الغفيرة التي لم يكن لعددها أي تغييرٍ فعلي أو حتى محاولة للتغيير لمصير الوزير في حين أنها جابهت كسرى بمفردها ولم تخشَ ذلك وحطّمتْ الاتّباع سواءٌ أكان ذلك في تغطية الوجهِ أم في الذل والهوان، بالإضافة إلى أنّه بموتِ ذلك الحكيم فقدت البلاد أيّ أملٍ يخرجها من مأزق العبوديةِ والسجود للفرد!
* وعلى الرغم من أن أحد النقاد «د. جابر قمحة» قد أشار إلى أنّ مطران قد حرّف التاريخَ في هذه القصيدةِ، إذ إنّ بزرجمهر لم يمتْ إعدامًا بل عاش إقامةً جبريةً، لكن ما يهمّ هنا هو طغيانُ كسرى_ومن شابهه_ وما يهمّ أكثر هو هذا الصوتُ الأنثوي الذي جاء متحديًا ووقف في وجه كسرى، ليس بمقابلةٍ بين رجلٍ وامرأة وإنما في قضيةٍ تتعلق بمصير أمةٍ وبلاد ! وقد يجعلها ذلك شبيهةً بشهرزاد التي استطاعت الوقوف في وجه شهريارِ الطاغية لإنقاذِ بنات جنسها من مصيرهن الأسود !
* وإن كانت ألف ليلةٍ وليلةٍ قد انتهت بمصيرٍ سعيدٍ لشهرزاد إلا أن قصيدةَ مطران تنتهي بكلمات ابنة الوزير التي مات الرجال في نظرها بعد موت أبيها، لأن أحدًا من الجموع الغفيرة لم يستطع الاعتراض على حكم كسرى بل وتبرؤوا جميعًا من الشفاعة له دفعًا لمصيرٍ يشبه مصيره، وكأنما قد اشتروا حياتهم بثمن حسائهم كما يرى الصادق النيهوم، ولذا ظلت نهايةُ الفتاة مفتوحةً على كل التأويلات، يضع لها القارئُ المصيرَ الذي يراه مناسبًا لها، فقد تُقتل وقد تكون سببًا في صلاح كسرى _مثل شهرزاد_ وقد تحرّض الجموعَ وتقود ثورةً إن استوحينا مصيرًا مناسبًا من الربيع العربي، فأيَّ مصيرٍ تختار لها؟!.