بوضوح، كيف ينتج المثقف، وكيف هي ميكانيكية الإبداع، وهل ثمة ميكانيكية للإبداع؟ وأين هي متعة المثقف؟
يعيش المثقف العربي اليوم حياة الحروب والمفخخات والموت المجاني وتتلون الأتربة بالدماء البريئة، والمثقف منزو خائف من قوى إمتلكت الساحة الحياتية، سواء ساحة السلطة أو ساحة الشعب.
الكاتب الروائي في مخاض الكتابة والولادة يكتب على الإنترنت روايته أو قصته القصيرة أو يرسم لوحته في بيته. يجري ذلك وسط الخراب. ثمة أمثلة كثيرة لا يمكن حصرها وكل مثال فيه تفاصيل واندهاشات علينا أن نسمعها مباشرة من أصحابها المبدعين فنقف أمامها مذهولين.
رسام يعمل معي في فيلمي الجديد «بغداد خارج بغداد» انتظر أن يكمل لي ثلاث منحوتات لتصويرها في حكاية كلكامش التاريخية. لا يستطيع الإيفاء بالوعد، لأنه تلقى مكالمة هاتفية فيها تهديد يطال حياته، يظل لا يعرف كيف ينفذ من الورطة ولمن الشكوى إذ لا سلطة ولا قانون.
يأتيني مرعوباً ويخلف معي الموعد وأنا ساكت لأنه على حق وأنا مطالب بإنهاء تصوير الفيلم وأنا على حق. هو يريد إكمال منحوتاته للفيلم حتى يشعر بمتعة الإنجاز ومتعة التلقي وأنا كذلك، وفي مصر أيضا ذات الحالة بأشكال مختلفة وكذا الحال في المغرب وأيضا في تونس، نحن نتواصل مع بعضنا وتكاد أن تكون حالاتنا متشابهة مع فارق بسيط بالتفاصيل.
تكمن متعة المبدع الروائي والشاعر ليس فقط في نشر روايته أو نشر ديوان شعره بل أيضا في معرفة ردة الفعل لدى الملتقي وان تأتي الناس لسماعه يقرأ الشعر أو أن تتحول روايته إلى فيلم سينمائي، وتكمن متعة السينمائي ليس فقط في مشاهدة الفيلم في صالة مظلمة مضاءة على الشاشة مع الناس ولكن أيضا في أيام تنفيذ المشاهد السينمائية وهي المتعة الحقيقية للسينمائي، متعة الفرح في إعادة صياغة الواقع روائيا.
أعتذر أني أكرر الأمثلة عني لأنها الأقرب والأوضح. أنا أنفذ في فيلمي بغداد خارج بغداد مشهدا عن أول عرض سينمائي في العراق عام 1911 وهو مشهد ممتع للصياغة والتنفيذ، تم تفجير المطعم الذي نذهب لتناول الطعام فيه قرب موقع تنفيذ الفيلم. حصل ذلك في الساعة العاشرة ليلا وأنا أصور الوالي التركي والشاعر الرصافي والزهاوي وهم جميعا يتوجهون نحو البستان الذي تم فيه عرض الأفلام. تم تفجير المطعم وبقينا بدون عشاء. صاحب العربات التي تجرها الأحصنة بين البساتين بات عليه العودة إلى بيته مع الأحصنة وعرباتها ليلا لمسافات طويلة. الجمهور الذي استأجرته لمشاهدة الفيلم في البستان من أعمار وأشكال مختلفة بات خائفا ولاسيما وقد جاءنا نبأ وجود حواجز إرهابية بملابس عسكرية. الرعب يسود المشهد السينمائي الفكه والمرح فتحولت الوجوه إلى وجوم وخوف. منع التجول يبدأ في الثانية عشرة ليلا ومدير الإنتاج يصرخ أنهوا المشهد سريعا قبل أن يدهمنا الإرهابيون، هذا حصل معي وهي حالة قاعدية وليست استثنائية، نفس الشيء مع بعض الاختلاف يحصل في بلدان ثانية، يهاتفني أصحابي السينمائيون ويشرحون لي معاناة حقيقية من الخوف.
هذا الواقع السياسي المتدهور ينعكس اجتماعيا وأمنيا على المنجز الإبداعي، فلا الرواية تحظى بفرص تحويلها إلى فيلم سينمائي، ولا القارئ، وهو مواطن، يمتلك قدرة شراء الروايات ومزاج قراءتها.
في السينما لا أحد يشتهي الذهاب للسينما فالصالات أصلا غير موجودة والموجود منها بكراسي مهشمة يجلس عليها سكارى لمشاهدة مسرحيات تجارية ومفهوم معنى التجارية أنها الأدب المبتذل المليء بالكلمات البذيئة التي تثير ضحك جمهور الحانات التي تساوت بالمسارح، هؤلاء المشاهدون السكارى لا يهمهم أن يصار إلى تفجير صالة السينما فهم يعيشون في المصادفة والوهم ويعودون إلى بيوتهم وهم لا يعرفون أنهم وصلوها. الكل نائم ليس في وطني العراق وحده بل في كل قطر من أقطار الوطن العربي الذي يشكل الدخان في سمائه لوحة الحاضر والمستقبل.
لنتساءل عن الحل والحالة. نحن فقراء. جيوبنا خاوية. لا نستطيع أن نلتقي لنعقد مؤتمرا نبحث فيها حالة الجفاف والخوف. ثمة أغنياء جالسون في ما يسمى أبراجهم العاجية يكتبون الشعر والرواية وثمة فضائيات تخصص وقتا لقصائدهم في شبكة عنكبوتية من البث. لا أدري لماذا لا يخصصون بعضا مما وهبهم «الله» لعقد مؤتمر أو لقاء ودي وثقافي يتم فيه بحث حال الثقافة وسط أهوال الواقع، فنحن اليوم سادتي نفتقر إلى متعة العطاء حيث نعمل وسط الخوف وأنا خير مثال على ذلك. أقطع المسافات لتصوير مشهد سومري في أهوار العراق وسط أهوال العراق وأهوال مصر وأهوال تونس وكل بلدان التاريخ الثقافي والإنساني. فمن يا ترى يعيد لنا متعة الإبداع ومتعة التلقي!؟
k.h.sununu@gmail.com