تتوالى قصص الفقيه على نحو وعي رشيق وحلم أنيق
يتفنن الأديب والكاتب اليمني زيد بن صالح الفقيه في نشر أدق تفاصيل حكاياته المتوترة جداً، والقلقة على مآل الحياة، والحادة كشفرة الوعي حينما تحز عقد الحقائق واحدة تلو الأخرى. فالفقيه في مجموعته القصصية الجديدة والرشيقة «لست أنا» ينشد الخلاص من منغصات كثيرة، تقيمها حالة العجز عن علاج ما يداوي عضلة القلب، ويقبضها ويفردها على أمل موعود، لكن القصص حينما يكشف الكاتب مخبئوها تلد الأكمة مدلولات كثيرة، ومعاني مترامية لـ«هيهات»، وما يليها، فتنثال معاناة شخوصه بصور شتى، لتظل حرية بالالتقاط والمتابعة.
يلتقط القاص في إهدائه مطلع المجموعة وهي تلويحة جمالية يقارب فيها السرد مع الشعر من مقولات «إلى أولئك الثوار الذين قالوا: لا في وجه من قالوا: نعم».. فهي مقولة للشاعر العربي أمل دنقل حينما هجس ذات ليل خليلي بأن العالم سيقوم منتفضاً على الظلم والجور والقهر وتكميم الأفواه.
ففي القصة الأولى «الغواية» يضع الفقيه عبق المكان أو سيرته الضاربة في عمق الوجدان «شارع الزبيدي» الذي يعج بالمتناقضات والصور الغريبة والعجيبة عن واقع ما زال يعايش الحياة بطريقة خاصة، فالبطل يحب اخضرار «عشبته» بل وينزلها منزلة الحبيبة والفاتنة الرقيقة حتى أنه في نهاية سرده لحكاية العشق التي بات يلوكها طوال الليل، لتفضي إلى أن مجها وبصقها بعد أن ترنحت به أنواء العجز وتأرجحت فيه أسنة العجز والخور، فلم يعد بطل القصة سوى حالة إنسانية هامشية لا تثير أحداً، وهذا ما أراده الكاتب لهذه الشخصية التي ظلت لعقود تحلم شططاً بأن «طريق الاخضرار» هو الحل للهرب من منغصات كثيرة.
تتوالى قصص الفقيه على نحو رشيق وأنيق، محمل بالوعي.. فرغم اقتضابه في صوغ الكلمات إلا أنه يبرع كثيراً في مد جسور التواصل السردي مع ما حوله من عوالم على نحو توقيعاته القصصية الحاذقة في المجموعة (ص10) حينما صور لنا ومن خلال أربع قصص قصيرة جداً حجم وَهْمٍ يعيشه الإنسان العربي، وعمق مخادعة وعي للخيول حينما يركبها الصعاليك أو من ليس أهلاً لامتطائها..
وثالثة حينما يصور حجم مأساة الحرس المخلصين مع من يغدر بهم من حرس آخرين، أو لصوص، وآخر التوقيعات حجم الفاجعة حينما يقر المقتول ببراءة القاتل..!! فلك أن تطرح ما تشاء من أسئلة وعي، واستفهام حدس.. ولك أن تفكر بحجم معاناتنا من خلال هذه الإضمامة من حكايات زمننا المفتوك به معنى ومادة.
تسيطر على عوالم النصوص جماليات المكان، وقوته، وعمق تصويره دون إطناب أو إطالة على نحو قصة «اغتيال» حينما عالج القاص مشكلة اجتماعية عميقة تتعلق في طرق ووسائل وأشكال ارتداء الحجاب عند المرأة العربية، إلا أنه استطاع وبطريقة فنية مذهلة أن يقدم رؤية حقيقية حول هذا الجدل من خلال ثلاث شخصيات تتمثل في رجل وامرأتين زارتاه في مقر عمله، ليستطلع الظواهر الشكلية في هذه الطريقة، ومن ثم ينفذ إلى العمق، ليكشف أن خللاً ما يعيق تكوين هذه الحالة الاجتماعية، بل يعبث بها.
كما أن هذه المجموعة تؤصل لفكرة البناء القصصي القائم على نموذج ثابت وراسخ في الفن القصصي حينما يتخذ الفقيه من نصوصه حالة فنية تتجسد فيها عناصر السرد على نحو حيزي المكان ـ كما أسلفنا ـ والزمان والحدث واللغة والفكرة، حيث برع بحق في تثبيت أركان قصصه من خلال هذا المنطلق الفني الواضح، لتخرج لنا الحكايات من رحمها الأول لكنها وليدة بوعي كامل، وبإدراك فني متكامل، وبثياب زاهية بفن القص الحديث.
اللغة السردية في نصوص هذه المجموعة تميل إلى البساطة والبحث عن مفردات مناسبة للحدث وللشخصيات، فيما تنجح لغة الكتابة والتدوين في أن تكون موائمة للحدث، كما أنها سليمة من حيث محتواها البلاغي، لتتعاضد في هذا السياق رؤية الكاتب في أن يدلل على قصصه بلغة رشيقة فائقة المعنى على نحو تراسلات الخطاب السردي في قصة «رأس خارج القانون» لنستخلص من هذه القصة مقاربة عميقة ومزلزلة حينما يكاشف الإنسان ذاته عن أمر ما يثير منغصاته، فلا يجد غير الموت مفراً أو مخرجاً.
شخوص هذه القصص في مجموعة الفقيه يسيرون في اتجاه واحد، إذ إن الراوي يخلق لهم حلولاً مختلفة، ويسلكهم دروباً غير ما ترومه الحكاية الأم، ليبتكر لهم الإجابات التي تبدو للوهلة الأولى أنها مقنعة، إلا أنك حينما تتأملها بوصفك متابعاً دقيقاً لحالاتهم ستلفي أنها شاقة أو قل عنها تصفية جسدية للشخوص وحكاياتهم، بل والقضاء المبرم على كل من يعتلج خارج دائرة الواقع الأليم.. فهو باختصار غير مخل يريد أن يقول: ليس هناك حلول في الواقع المنظور.. إنما أمل ما.. أو لكل حادث حديث.
** ** **
إشارة:
- لست أنا .. (قصص)
- زيد صالح الفقيه
- صنعاء - الطبعة الأولى 2012م
- تقع المجموعة في نحو (78صفحة) من القطع الصغير