يقول الفنان يوسف جاها في تقديمه لإبداعه ولنفسه في صفحته التي خصصت له مع نخبة من التشكيليين في موقع مؤسسة المنصورية للفنون (الفن هو الإنسانية التي صهرته أمجاد الطبيعة: الأضواء الخافتة وطبقات اللون، الشكل، الفراغ وانحناء الخط، الجمع، التقاطع والانكسار، كلاهم يروون ظمأ الأرض) ويقول في إضافة أخرى (أعمالي تشكل جزءاً حيوياً من شخصيتي، وذلك بشيء من اليقين، الثقة والإفصاح الفطري لمفاهيمي الباطنية. كما يجب أن تكون الخبرة والمتعة نابعة من الداخل، وكلاهما يقود إلى تأمل الطبيعة والخبرة التقنية التي تفّسره).، هذا الفنان أصبح علامة هامة من علامات الفن التشكيلي السعودي، يقدم نفسه من خلال إبداعه دون ضجيج، سائرا عكس تيار من يبحث عن الشهرة قبل إثبات الذات نحو إثبات الذات باتجاه الشهرة التي حقق منها الكثير، إنسان هادئ، قليل الكلام، وإذا تحدث لفت النظر، ينظر إلى الساحة من خلال عين ملؤها التفاؤل أحيانا وأحيانا أخرى يمتعض من كثير من المواقف كما جاء في تصريح سابق له للزميل حسين الشيخ من جريدة اليوم أن الحراك التشكيلي الذي تشهده الساحة الفنية الآن يظل تقليدياً ما لم تدفعه الجمعية السعودية للفنون التشكيلية (جسفت) بمبادرة قوية وفاعلة تؤسس مرحلة جديدة قادمة تواكب تطلعات الفنانين التشكيليين محلياً ودولياً..
وفي موقع آخر قال للزميل محمد المنقري في جريدة الشرق الأوسط (الفن هو الإنسان مضافاً إليه الطبيعة، والطبيعة هنا جزء من ثقافتي الفنية عشتها، بأحاسيسي وجماليات المكان الذي أصبح عالماً بأكمله أرسم من دون تحديد لموضوع معين، أو شكل معين لأجعل الحوار مفتوحاً وممتداً بيني وبين المساحة البيضاء، وبهذا يكون اللون جزءاً مهماً من فني وشكل شخصيتي حيث أجدهما محرضين لي دائماً... إنني أبحث، وأجرب باستمرار.
يوسف جاها الذي يحمل بكالوريوس تربية فنية من جامعة أم القرى ويعمل مدرساً للتربية الفنية بدأ مشاركاته المحلية منذ مطلع الثمانينات وشارك في معارض عربية ودولية ابتداء من العام 83م، أقام معرضه الثلاث السابقة في جدة (87- 96- 2001) وقد حصل على جائزة السعفة الذهبية في المعرض الدوري الأول لدول مجلس التعاون الخليجي عام 89م، إضافة إلى ثلاث جوائز من (ملون السعودية) أعوام (92- 97- 2001م) وله العديد من المقتنيات لدى كثير من الجهات والشخصيات.
فضاء يعج بعوالم افتراضية
للفنان يوسف جاها عالمه السابح في فضاء افتراضي قد يظهر لعابر السبيل المار مرور الكرام على لوحاته بأن تلك الإيقاعات اللونية والخطوط المتصلة تارة والمنفصلة تارة أخرى دون إخلال بالمضمون، محظ صدفة، نتيجة لما يتراءى له من فعل فني يفتقر إلى التماسك عودا إلى ما يحمله هذا النمط من المتلقين من صورة معهودة رسخت في أذهان الكثير ممن يفتقدون مفاتيح قراءة الأعمال الفنية ، دون علم أن بين تلك الخطوط والألوان أشياء جاءت من أعماق الحياة، تجارب مع من على الأرض من تنوع، كما هي المعاني في بيت القصيد، تحتاج لعين فاحصة وعقل مدرك، ومعرفة مسبقة عن تجارب هذا الفنان لذي وضع يده على أسلوب يجمع بين المباشرة في الجمال (الاستاتيقيا) وبين عمق المعنى، لهذا تحتاج اللوحة إلى قراءة متأنية وبحث هادئ للإمساك بأطراف الفكرة، كما تأتي أو تتشكل في فهم المشاهد، فللفنان يوسف جاها قدرة على امتلاك زمام البناء الحقيقي بين الكتل والمساحات الملونة، لتصبح لوحاته مسرحا للحوار، تارة يراها المتلقي، فارغة .. أو مشتتة، وتارة أخرى، يرى فيها عالماً افتراضياً تتخلله شخوص، أو رموز لتراث أو إيحاء لبحر، ترطب الجباه نسماته، أو لصحراء ساخنة تشعرك بالدفء، تجاور وتمازج، أو تباعد وتفرق، لا يخرج من إطار اللوحة، بل يستوقفك لتجمع تلك الحالات اللونية والخطية وتراقب كيف للفنان أن يملأ الفراغ بفراغ، ينتهي بشكل متكامل.
يأخذك في رحلة تخرجك من دنيا المساحات القاتمة إلى عالم من الشفافية، يعزف على أوتار الضوء الآتي من كل صوب، يجردها من أصلها ليعيدها إلى أصل آخر يظهر فيها بعض رموزه ويخفي الأخرى، يدفع بها المتلقي إلى حالة من الدهشة وطرح علامات التعجب والإعجاب، يستحضر فيها كل حالات التأمل ويمنح الوجدان مساحة التربع في مساحة العمل، بحر وسماء وأرض مدى وألوان، ثلاثية آتية من رؤية ذات بعد فني من صاحب خبرة وتجارب طويلة في عالم الفن التشكيلي، يستجمع مشاهداته اليومية في كل جزء وموقع قدم ليرصدها ألوانا تغلف موضوعاً وفكرة ما، يبحث عن أشياء قد تختفي في ثنايا الزمن، في الذهن أو على أوراق الرزنامة، يستجمعها في حالات الفراغ، بكل جمالياته، ويعطي للمشاهد فرصة لملئه، حالات تعبير نحو الشيء من لا شيء .. فراغات تحتضنها كتل، تضاد هو الأجمل، عند النظر للواقع المعاش لا يرى حقيقته سوى الفنان، احتواء إنساني لمشاعر يراها الفنان يوسف جاها فيحيلها إلى مشهد حي في لوحاته، ويدفعنا للبحث في عالمه عن حقائق كثيرة تؤطرها قناعتنا بأنه بحق فنان متفرد.
monif.art@msn.com