بين حين وآخر وأنا أستعرض عدداً من الصحف الصادرة بالمملكة إذا بي أجدني أمام قصيدة طريفة للشاعر اللواء عبد القادر كمال، فلاعجب فهو ابن الشاعر عبد الحي كمال الذي كان لي شرف ترجمته في الموسوعة التي أصدرها محب الأدب الشيخ عبد العزيز بن سعود البابطين (معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين) الذي عاش في منطقة جبال عسير المنطقة التي تنطق لوحاتها التي أبدعها الخالق شعراً، وغالباً ما تصنع البلدان المتميّزة بمناظرها الخلابة الشاعر المبدع، إضافة إلى عوامل أخرى فطرية ولغوية وثقافية وسعة اطلاع، ولقد عرفت الشاعر من خلال المجلة العربية في صفحتها الأخيرة قبل أن ألتقيه شخصياً، لأراه ظرفاً ملئاً علماً وثقافة ومعرفة واسعة فضلاً عن حبه وانتمائه لوطنه الكبير، وعمله الدؤوب لخدمته ورفع شأنه، لذلك لا غرو أن يُختار لمجلس الشورى ويجدد له لدورات متعاقبة ثلاث، ولقد كان في غاية النشاط مع ثلة من الأعضاء من خلال تبادلهم في أوقات الاستراحة في المجلس لطائف الشعر، وكذلك في متنزهاتهم ورحلاتهم الصحراوية التي كان فيها من ضمن برنامج الرحلة مسافات يقطعونها سيراً على الأقدام، أقول هذا لأنني لمست بعد تقاعده من مجلس الشورى ثراء شعرياً كأنه كان يختزنه لفترة ما بعد الخروج من المجلس ليخرجه متتالياً، بعد أن كان حبيس سجن الفكر المختزن، بيْد أن الملفت لمن يتابع تطور شعره عبر الزمن يرى أنه في ارتقاء، ففي هذه الفترة أمتعنا بشعر رقيق الحواشي بديع المعاني، راقي الأسلوب، ندياً منفتحاً على النسيب الحلال المصفى، ليس بالمسف وصفاً، ولا بالعاصف عصفاً، لكنه مليء بالعاطفة والوجدان، فيه ذائقة الأدب الندية، والعبارات السلسة الرائقة الوردية التي عدمت من كثير من شعراء الفصحى في هذه الأيام، بيْد أنه لا يخلو من إيراد بعض الكلمات المتكلفة التي اختفت من تعاملنا اللغوي في هذا العصر، فأراد إحياءها أو اختبار ثقافة القارئ في الوصول إلى معناها؛ ثم عاد بشيء من الإشفاق فسهّل على القارئ مؤونة البحث عنها والإخفاق؛ فأثبت له معناها في ذيل القصيدة.
ومما يلاحظ على الشاعر عبد القادر كمال، أنه دأب في قصائده الغزلية إلى الانسلال متراجعاً بعد أن يصل فيها إلى قمة الوصف في النسيب والشوق الحالم بكل ما أوتي في هذا الاتجاه من الانصهار بشعوره وعواطفه، فكان سرعان ما يفيق من جنوح الخيال والانقياد وراءه إلى مرحلة الذوبان، فكأنه كان في غيبوبة اللاشعور، ثم طرقته إفاقة فأنزلته من حالق الخيال الرهيف، وما ذاك في تقديري إلاّ الخشية من أن يقال عنه «رجوع الشيخ إلى صباه» فسنّه - أمدّ الله في عمره - والتزامه الديني والفكري، جعله يقف عند حد لا يريد تجاوزه، وإن كان كثير من العلماء الشرعيين قد أجازوا للشاعر ما لا يجيزونه لغيره، لأنّ الشعر مبالغة وما خلا منه من المبالغة يرجعه كثير من الأدباء إلى النظم.
وكمثال لما أقوال، ما ورد في قصيدته المساء المعطّر:
مـساؤكِ عِـشْـقٌ وبَـوْحٌ مُـعَـطَّـرْ
وقِـنْديـلُ زَيْـتٍ وزَيْـتـونُ أخْـضَـرْ
مـساؤكِ يـا حُـلْـوتـي أغْـنِـيـاتٌ
وصَـوْتٌ شَـجِـيٌّ ونَـغْـمَـةُ مِـزْهَـرْ
مـساؤكِ حِـضْـنٌ شَـهِيٌّ ودِفْءٌ
ودُرَّاقَـتـانِ وكــوزٌ وسُــكَّــرْ
مـساؤكِ يـا شَـوْقُ هَـمْساتُ حُـبٍّ
ورفَـةُ جَـفْـنٍ وعِـطْـرٌ وعَـنْـبَـرْ
إذا زُرْتُ رَوْضَـكِ يَـهْـتَـزُّ قـلْـبـي
ويَـنْسابُ هَمْسُ القَميصِ المُـخَصَّـرْ
أَصَـخْـرٌ أنـا أمْ تُـراني جَمادٌ؟
وحـتى الـجَمـادُ لـهُ ألْـفُ مَـنْـظَـرْ
وبعد هذا الاسترسال يأتي التراجع والانسحاب، أو قل: الاستجابة طواعية للداخل المتديّن الذي يأمر بالانسحاب، فيقول:
أُحَـدِّقُ فـيـكِ ويَـزْدادُ شَـوْقـي
وأَلْـجِـمُ حِـسِّـي ولا أَتَـسَـوَّرْ
وأَغْمِضُ عَيْـني عَـن الـمُغْـرِياتِ
وعَـنْ يـانِـعٍ مِـنْ قِـطـافٍ مُـدوَّرْ
أَهِـمُّ ، وتَـمْـنَـعُـنـي شِـيـمَـتـي
وأُغْـضي حَياءً وفي القلبِ خنْـجَـرْ
أُعِـيـذُكِ يـا شَـوْقُ عـمّـا يُـشِـيـنُ
فـأنْـتِ لِـعَـمْـرِيَ أَسْـمَـى وأَكْـبَـرْ
ومَـنْ يَـعْـشَـق الـرّيـمَ لا يـبْـتَـغـي
هَـوانـاً لـهـا وهْـيَ أَزْكَى وأَطْـهَـرْ
النموذج الثاني، بوح العبارات:
إلـيـكِ يـا حُـلْـوتـي بَـوْحُ الـعِـبـاراتِ
تَـهْـفـو إلـيـكِ بـألـحـانِ الـصّـبـاحـاتِ
وتَـحْـمِـلُ الـشّـوْقَ فـي تَـرْنـيـمَـةٍ مُـلِـئَـتْ
بِـالـحُـبِّ تَـسْـمـو عـلـى آهٍ وآهــاتِ
يـا عَـذْبَـةَ الـرّوحِ كــمْ غَـنّـيْـتُ مِـنْ ألـمٍ
وكـمْ شَـفَـعْـتُ بِـهـا إطْـلاقَ عَـبْـراتـي
لـوْلاكِ يا صُـبْحَ عُمْري ما مَشَـيْـتُ خُطَىً
ولا سَرَيْـتُ بِـدرْبٍ فـيـهِ إعْـنـاتـي
كَـمْ رُمْـتُ أنْ أرْتَـوي مِـنْ صـدْرِ حـانِـيَـةٍ
فـلـمْ يَـحِنْ بَـعْـدُ صـدْرٌ لاهْتِمـاماتـي
أتَـيْـتُ والـنّـجْـمُ يَـحْـدونـي تـألُّـقُـهُ
فـلــمْ أجِـدْ ثَـمَّ تَـرْحِـيـبـاً لِأوْبـاتــي
وعُـدْتُ والـخاطِـرُ الـمَـكْسـورُ يَـسْـكُـنُـني
وغُــصّـةُ الـحُـزْنِ حالـتْ دونَ حـاجـاتـي
وقــد تَـنـاثَـرَ حَـرْفـي وانْــطَـوَتْ كُــتُــبـي
وبِــعْــتُ عُــمْــريَ فــي سُــوقِ الإمــاراتِ
النموذج الثالث، الحب بلا أمل:
لا لست أول من أحب بلا أمل
كم دون جني الشهد من إبر النحل
ذي عادة الحسناء تقبل برهة
وإذا سبتك رمتك في أمر جلل
الدّلُّ طبع للنساء محبب
والحسن يكمن في التدلل والخجل
والظبي أجمل ما يكون نقاوة
يسبي العقول إذا تلفت في وجل
أنا يا مليحة عاشق ومتيم
وأسيرُ إغضاء النواعس والنُّجُل
أفدي النواعس كم أصبن حشاشتي
ومراشفاً لو كان تسمح بالقُبَل
وبعد هذا الوصف والتحبّب والاسترسال في الهيام ولواعج الأحلام، يفيق مما هو فيه، ويقول:
هذي أمان والأماني خُلّبٌ
من قال تقترب الثريا من زحل؟
أستغفر الله العظيم لزلّتي
فالشعر قول لا يصدَّق بالعمل
وبعد هذا التألُّق في النسيب وإرادة الحياة بالأماني العِذاب ونفحها بالحب العذري، وهو يتنقّل من زهرة فوّاحة إلى أخرى تؤذن بالفوح، وهي في عرام الصبوة وتفتح التويجات لتنفح ما تجود به من حبيبات الرحيق السكري، إذا به يناجي مالك الروح بإقبال المؤمن على ربه بتوبة وأوبة وإشفاق نفس، لا يملك في تلك الساعة الابتهالية إلاّ الصور التي تدنيه من القبر وطلب الرحمة والاستقبال الحسن، إذا ما حانت ساعته ودنت منيته، رغم إحساسه بأنّ هناك بقية من العمر لاتزال وهي تعطيه الأمل بمحاسبة النفس والإقبال على الله بطهر القلب والبدن كالثوب الأبيض الناصع النقي، ولكن لا أدري سبب هذا الإحساس، وهو الحركي المتواصل مع إخوانه في زياراتهم وجلساتهم؛ المتنقل بحيوية بين جدة والرياض، يمكث بعض الوقت هنا وبعضه هناك، أتُراه نظر في المرآة فرأى تغضن الوجه، أم طال عليه ثوبه فأحس بأن شبابه يذوي؟ أم قرأ ما نقلته بعض الصحف هنا عن خبرة طبيب ذكر علامات دنو الأجل.
لقد كتبت عن بعض من بلغوا السبعين وقد تطهّروا مما وقعوا به في ما تقدم من عمر، أو نعوا أنفسهم وما طمعوا بالزيادة، أما شاعرنا عبد القادر كمال فقد تجاوز الآن السابعة والسبعين، وندعو له بطول العمر مع العمل الصالح، يقول في قصيدته التي نشرتها الجزيرة في الخامس من ربيع الأول 1434 هـ:
يا مالكَ الرُّوحِ لا تَعْجَلْ بِآخِرتي
فإنّ في الكأسِ بعْضاً مِنْ ثُمالاتِ
فقدْ دَنَتْ لِغُروبِ الشَّمْسِ قافِلتي
وأوْشَكَ المَوْتُ أنْ يُطْفي إضاءاتي
يا مالكَ الرُّوحِ أحْسِنْ عند خاتمتي
ردَّدْتُها في دُعائي وابْتِهالاتي
إلى أن يختم طلبه من العلي القدير العفو والمغفرة، وأن طريق الهدى المستقيم واعتقاده السليم هو طريق النجاة بإذن الله، ولا أدري أقصائد السبعين أنضج أم قصائد السابعة والسبعين، ولا شك أنّ الشاعر عبد القادر كمال قد وفق إلى القصيدة الناضجة أسلوباً وذائقة أدبية ومعنى قيماً وازن فيه بين الخوف والرجاء، وهو مذهب أهل السنّة والجماعة، فختم بهذا البيت الجميل:
وليْسَ لي غيرَ حُسْنُ الظَّنِّ يَشْفَعُ لي
وطيب مُعْتَقَدي في كُلِّ حالاتي