Culture Magazine Thursday  07/02/2013 G Issue 395
فضاءات
الخميس 26 ,ربيع الاول 1434   العدد  395
 
مابعد الديكتاتوريّات (1-2)
الاستبداد المتشابه... بين التديّن والتمدّن!
ياسر حجازي

 

(أ)

هل السياسيّون العرب يعملون ضدّ طغيان الاستبداد أم ضدّ شكل معيّن من أشكال الدول؟ وهل العلمنة ضمانة للتخلّص من الاستبداد أو أنّ الإسلام السياسي متورّط بالحتميّة به؟ وكيف مازال شعار (الإسلام السياسي هو الحل) يحظى بشعبيّة على الرغم من آثاره التقسميّة في السودان والأراضي الفلسطينيّة.

أزعم أنّ الاستبداد حالٌّ بجميع الأنظمة السياسيّة، بدءاً من الأحاديّة المطلقة حتّى النظم البرلمانيّة التمثيليّة، ويكون الفارق بينهم في تفاوت نسب الاستبداد ومعدّل دوران التمثيل السياسي بين استبداد طاغي تمثّله أقليّة، وآخر نسبيّ تمثّله أكثريّة بسيطة مع إمكان تداركه في تداوليّات سياسيّة، لذلك فإنّ التداول السياسي يبقى الضمانة الأكثر جدوى لمحاصرة نسب الاستبداد عبر التمثيل السياسي الدوري، إذّاك فإنّ طغيان الاستبداد عُرضةً أن يكون في أيّ شكل من أشكال الحكومات التي لا تمارس التداول السياسي، فهو ليس حصراً على نظامٍ شموليّ أو إكليروسيّ أو عسكريّ، ونحن هنا لا نزيحه عن الإسلام السياسي وهو المدموغ فيه خطاباً وواقعاً، لكنّ في الوقت عينه لا نُريد للإسلام السياسي أن يتلبّسه هذا البعبع كخاصيّة لا تنزع ولا يستتاب منها، أو يصدّق عجزه عن بلوغ التعدّدية، فيستأثر في خطابه طغيان الأحادية، لأنّ الأحاديّة والاستبداد ليستا قدراً مصيريّاً أمام الإسلام السياسي إذا نضجت العزيمة المتمثّلة في (النيّة والإرادة والمعرفة) ووضعت غايتها في التعدّدية المدنيّة، والتداوليّة السياسيّة، والحقوق المدنيّة كأهداف ضروريّة لا يقوم بناء دولة من دونها؛ فلا يغلب فريقٌ فريقاً آخر بحجّة التقوى، فتفاوت التقوى بين الناس ليست معياراً للكفاءة والمواطنة والحقوق والواجبات.

ونحن لا نطبع الإسلام السياسي بالاستبداد لأنّنا نخالف خطابه، بل هي ممارساته ونتائج تجاربه في الواقع العربي، وفي المقابل فإنّ ممارسات العلمانيّة العربيّة السياسيّة لم تخلو من الاستبداد، كما حال التجارب: (التونسيّة البورقبيّة، العراقية البعثيّة والسوريّة البعثيّة واليمنيّة الشيوعيّة). فكما نرفض المصادقة على قدرة الإسلام السياسي على حلّ المشاكل المتوارثة عبر خطاب إقصائي وبرنامج سياسي واقتصاديّ متواضع، إضافة إلى ساذجة ورجعيّة فكرة الوصاية التي يمارسها على عقول الناس، كذلك ليس سهلا قبول الحلول الضبابيّة من تيّارات مدنيّة كانت أساساً جزءاً من الانتكاسات العربيّة على مستوى الاقتصاد والسياسة، وتعالت عن لعب دور اجتماعيّ وتعليميّ على مدى قرن من الزمن.

(ب)

ليس سرّاً أنّ المنطقة العربيّة كلّها تأثّرت، ولا تزال تحت تأثير سقوط الديكتاتوريّات العربيّة والصراعات على شكل الدولة بين التديّن والتمدّن، وبين سيناريوهات وتدخّلات عربيّة-عربيّة وأخرى غربيّة لإدارة مابعد الربيع/مرحلة انتقال السلطة من العسكري إلى المدني، والإشكالات التي تواجه هذا المدني حين تكون تيّارات الإسلام السياسي هي الأكثر تنظيماً وتقارباً مع شرائح السكّان المتوسّطة وما دونها؛ وكلّ ذلك وضع المحظورات والمحرّمات السياسيّة على طاولات التداول في أروقة الحكومات العربيّة ولم تعُد تابوهات يحظر مناقشتها علناً؛ ويبدو واضحاً افتقار الساسة العرب للمهارة في التعامل مع الواقع في مرحلة البناء والنهوض لعوامل عدّة: (داخليّة: تتمثّل بضعف المعرفة، وعجز الاقتصاد، وخارجيّاً: تضارب التدخّلات العربيّة والدوليّة) وتبقى منافعَ الإصلاحات السياسيّة في حفظ الفرد والدولة وحمايتهما من مخاطر تعطيل التغيير غائبةً ومغيّبةً. والمقصدُ: أنّ الواقعَ محرقةُ التصوّراتِ حين تعجز الحكومات والمعارضة عن تقديم حلول توفّر الحدّ الأدنى من حفظ الكيانات والمكوّنات في مواجهة اختناقات اقتصادية وسياسيّة وتشريعيّة. وربّما من فوائد ما أنتجته الذكائيّة الرقميّة/ومشاعيّات النت أنّها أنهت الزمن العربي الذي كانت فيه طبقة سياسية واحدة (سلطة ومعارضة) تفكّر بالنيابة عن كلّ مكوّنات الدولة، وهذا لا يعني ارتفاع نسب المشاركة السياسيّة، لكنّ الدول العربيّة حتماً لم يعد شكلها وشيئاً من مضمونها كما كانت عليه قبل شيوع الذكائيّة الرقميّة على مستوى التأثير والإزعاج السياسي، وليس على مستوى الثقافة والمعرفة.

ولعلّ أكثر المسائل المتداولة في مرحلة ما بعد الديكتاتوريّات تتعلّق بمشروع الإسلام السياسيّ ومخاطر ديننة الدول العربيّة، ومدى قدرته على الحفاظ أو التأسيس لدولة مدنيّة، وإلى أيّ مدى نتّفق أنّ العرب عرفوا الدولة المدنيّة الحديثة؟ المسائل عديدة وتحليلها مازال غضّاً واحتمالاتها عديدة، بينما يقف موضوعنا عند مناقشة فكرة (الدولة الدينيّة) العائم؛ فما هو المقصود بالدولة الدينية؟

(ج)

ابتداءً: فإنّ مفهوم الدولة الدينيّة -على توسّع دلالاته- قائمٌ على أُحاديّة التشريع عبر تمثيل الحقّ والحقيقة النهائيّة من خارج الإنسان، فلا خيارات أمامه ولا تعدّد. لذلك فإنّ مفاهيم مجرّدة: (كالحريّة والمساواة والعدالة) لا تكون قابلة للتشريع والتداول النسبي، لأنّها جميعةً -وكيفما تشرعنت وتقنّنت- تصادميّة مع السلطة الأحاديّة، التي يمثّلها فردٌ أو أفراد يدّعون -دائماً، وفي كلّ دين- أنّهم أوصياء ووكلاء بين الحق والدين وبين الباطل الذي تمثّله الدنيا والإنسان على حدّ زعمهم.

وفي هكذا دولة تكون القوانين عادة مفتوحة وليس مضبوطة، بل متروكة لاجتهاد الطبقة الدينيّة وفق الحاجة والضرورة، فلها السلطة المطلقة لحرية وتعديل وتنفيذ ما يناسب تصوّراتها وغاياتها، ولا سلطان لأحد عليها. وقد لا نجد شكل دولة متطابقة بالكامل وفق ما قدّمنا له، إلاّ أنّ: (مرجعيّة التشريع وقوّة تنفيذه) هي العلامة الفاصلة بين مدنيّة الدولة وديننتها، فلا يجب التوقّف عند شكل النظام السياسي دون قراءة تشريعاته وتنفيذها. فالمعروف مثلاً: أنّ لبنان دولة جمهوريّة ذات نظام سياسيّ برلماني-تمثيلي، لكنّ قراءة تشريعاته وأعرافه وتفكيك المحاصصة السياسيّة وتعارضها مع الدستور، يجعل الظنّ بأنّه دولة مدنيّة يتراجع أمام الوقائع التي تضعه في خانة: (الدولة الطوائفيّة-الدينيّة)، إذ إنّ قوّة التشريع ليست صلاحيّة محصورة بالمجلس التشريعي، لطالما هي تحت إمرة سلطات (البطريرك الماروني، والمفتي السنّي، والمرجع الشيعي، وشيخ العقل الدرزي)؛ فمشروع قانون الأحوال الشخصيّة-الزواج المدني الذي طرحه رئيس الجمهوريّة (الراحل إلياس الهراوي) سنة 1998 في فترة رئاسته واتّفق معه رئيس البرلمان (نبيه برّي) وحصل على أكثريّة التصويت في مجلس الوزراء على الرغم من معارضة الرئيس الراحل الحريري، لكنّ المشروع لم يقدّم للمجلس التشريعي للتصويت، وذلك لأنّ المرجعيّة الدينيّة المارونيّة والسنيّة رفضتا هذا المشروع. هكذا نشكّك في قيمة التمثيل البرلماني والتشريع المدني، لطالما أن مسألة التشريع مربوطة بشخوص البطريرك والمفتي والعلّامة والشيخ.

هذا بالنسبة للبنان، وعلى ذلك قس بقيّة الدول العربيّة -يرحمك الله- بما فيها دول الخليج إذّاك لا يمكن أن نطمئنّ أنّها دول مدنيّة بالشكل والمضمون الذي يخالف كُلّياً ولا يتقاطع في استقلاليّة تشريعاته مع ما قدّمناه لشكل ومضمون الدولة الدينيّة، لأنّها جميعة تتأثّر بطريقة وأخرى في تشريعاتها بالمرجع والسلطة الدينيّة بنسب متفاوتة.

**

إنّ معضلة الإسلام السياسي تتمثّل بايجاد دولة تستمد تشريعاتها من الأصول كما يتماشى مع خطابه الذي قدّمه لناخبيه، ثمّ لا تكون تلك الدولة تحت خصائص الدولة الدينيّة كما وعد شركاءه في الوطن. وهي إشكاليّة يستعصي حلّها في ظلّ الاضطرار لإقصاء التيّارات المدنيّة خدمة لمشروع العودة للأصول الذي يظنّ به علاجاً لعثرات الواقع. كما أنّه يواجه الآليّة المدنيّة (الديمقراطية) التي أوصلته للسلطة، بحيث إنّه مضطّر للمحافظة عليها لأنّها أساس في شرعيّة وجوده وحجّته في الإقصاء عبر ممارسة (استبداد الأكثريّة)، إذّاك فإنّنا لا نتوقّع منه مشروعا معرفيّا مدنيّاً ينهض بالفرد في معرفة الطريقة المثلى في ممارسة حقوقه السياسيّة بعيداً عن التوجيه الدينيّ، الذي يمارسه الإسلام السياسي عبر التدخّل في حقوق الناخبين بتقويم اختياراتهم في الميزان الديني، إذّاك فلا تعلم هل يملك المرء صوتاً حُرّاً تحت هكذا ضغط نفسي عقائدي، حين يوجّه أنّ اختياره السياسيّ مربوطٌ بمصيره في الآخرة. فكيف يمكن أن تُبنى دولة مدنيّة ذات تداوليّة سياسيّة تشرعن فيها الدعاية السياسيّة بموازين الأجر الدينيّ، بحيث إنّك: إنْ منحتَ صوتك، وقلت: (نعم للإسلام السياسي) ضمنت الجنّة، وإن قلت: (لا لدستور الإسلام السياسي) تأبّدت في جهنم. ثمّ على أرض الواقع، الويل إذاً للمخالفين.

(يتبع....)

Yaser.hejazi@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة