من يصنع ثقافة المجتمع؟ والحقيقة أن العلاقة بين الثقافة والمجتمع علاقة يعتريها بعض الغموض من حيث تراتبية ثنائية التأثر والتأثير،فهل الثقافة هي التي تصنع مجتمعها أم المجتمع هو الذي يصنع ثقافته؟.
إذا اعتبرنا أن الإنسان في ذاته «البنيوية الفطرية الخالصة» هو فاعل التجمع وفق الكم؛فهل كل تجمع يمثل مجتمعا؟.
اعتمد فاعل التجمع في بداياته على «مبدأ التشابه» لتحقيق «أثر الأنس والاندماج» وبذلك يُصبح مبدأ التشابه في فاعل التجمع أقرب إلى «حماية النفس» من خوف الوحشة والغربة.
وبذلك فقد اعتمد فاعل التجمع على»الثقافة في تشكيل تجمعه الأول».
لأن اعتماده على مبدأ «وحدة التشابه» لاختيار فاعل التجمع سيفرض عليه عملية التمييز بين المتشابه والمختلف وتلك العملية ستلزمه أيضا بصناعة معايير للتمييز بين ما يشبهه وبين ما يختلف عنه والفصل بينهما.
لكن التشابه لا يطور «فاعل التجمع» لأنه غير قادر على «الإنتاج»، ولذلك لا نندهش عندما نقرأ في التاريخ أن الجماعات التي أغلقت عالمها بإطار وحدة التشابه اندثرت وماتت تاريخيا.
لأن «وحدة التشابه» لا تستطيع الإنتاج، والإنتاج هو الذي يطور التجمع ويحوله إلى مجتمع؛سواء كان الإنتاج عبر المعرفة أو التكامل أو الإضافة.
وقد يرى البعض أن «مبدأ وحدة التشابه» يملك القدرة على إنتاج المجتمع».
ولا أظن أنني أتفق مع هذا الرأي؛لأن إنتاج المجتمع يحتاج إلى المعرفة والتكامل والإضافة.
فوحدة التشابه لا تملك القدرة على صناعة معرفة، لأنها تعتمد على «خصوصية التعاليم».
والمعرفة لا تُصبح معرفة إلا عندما تملك الرأي والرأي الآخر، والتكامل لا يُصبح تكاملا إلا باندماج المتشابه مع المتنوع ،والمتشابه كونه أحادي القاعدة لا يملك القدرة على إنتاج المتنوع ليُشكل معه تكاملا؛ ولذلك فالتشابه يحتاج إلى الاختلاف لإنتاج التنوع الذي يحقق له التكاملية الوظيفية.
والإضافة لا تصبح إضافة إلا إذا أسهم ناتج تجربة التشارك في تطوير التجربة وإنتاج تجربة أخرى تطور التجربة السابقة.
وبذلك فإنتاج المجتمع يحتاج إلى أكثر مما تتطلبه «البنيوية الفطرية» للأنس والاندماج، إنه يحتاج إلى القدرة على فاعل كيفية التجمع المشروط بالمعرفة والتكاملية والإضافة الذي يصنع منه مجتمعا.
فالقدرة على التشكيل من حيث الكيف في إنشاء المنظومات تتجاوز البنيوية الفطرية الخالصة لأنها تحتاج إلى ما هو أكثر من فطرية الإحساس بالجمعي وحماية النفس من ألم الوحشة والغربة.
تحتاج إلى التعلم بماهية التوافق وكيفية تحقيق التكامل الوظيفي في المنظومة الجمعية، وإن كان التوافق يعتمد على التشابه ،فالتكاملية لا تتحقق إلا بالتوافق الوظيفي بين المتشابه والمختلف.
والتكاملية لا يمكن أن تتحقق إلا في ضوء «شرعية رضا» متبادلة بين المتشابه والمختلف.
وتلك الشرعية هي التي تحقق التوازن التنظيمي للمجتمع.
و»شرعية الرضا» لن تحقق التوازن بين المتوافقين إلا إذا كانت عادلة «شرعية رضا عادلة».
وأي شرعيّة للتوافق لا تتصف «بخاصية العدالة» هي «شرعية فاسدة»؛لأنها تُجبر المتضررين منها على التحول «إلى بلاك بلوك» كتلة سوداء من التمرد والغضب والعنف.
إن اعتماد الإنسان في تشكيله للمجتمع على «التشابه» باعتبار «بنيويته الفطرية»» والمتشابهون ينجذبون لبعضهم البعض» دون آلية التجمع، لا يمكن أن يحقق «التكامل الوظيفي» لوحدة تنظيم المجتمع،فالتشابه لا يحقق تشكيل المجتمع،إنما يتشكل المجتمع بالتشابه والاختلاف معا، من خلال خاصية التنوع، لأنهما يحققان التكامل الوظيفي الذي تعتمد عليه فكرة إنشاء المجتمع.
إن خطورة وحدة التشابه تكمن في إلغاء حق الأجيال في الخروج من الشرنقة الأبدية لقدسية التشابه وهو ما يحول الأجيال الجديدة إلى جهة تمردية عنيفة للتغيير المادي باعتباره هو المحطم لمعيار الفاعل الكيفي لوحدة التشابه على مستوى الشكل والمضمون معا.
إن كانت وحدة التشابه تتحكم في نشأة فاعل التجمع، فهي لا تستطيع أن تتحكم في «الأرض».
إن الصراع الأولي الذي بدأ بين «المتشابه والاختلاف» في مفهومهما البدائيين كان من أجل الأرض؛باعتبار إن وحدة التشابه لفاعل التجمع أو وحدة الاختلاف لفاعل التجمع؛لأن وحدة الاختلاف في ذاتها من خلال توحيد المختلفين تُنتج «وحدة تشابه»؛ لا يمكن أن تتم إلا عبر «الأرض المستقلة للوحدة الخاصة» وهذا المبدأ هو الذي أسس «لفكرة الصراع والعنف والحرب»،لوهمية إن «الأرض الواحدة» لا يمكن أن «تسع وحدتي التشابه بالتشابه والتشابه بتوحيد الاختلاف»،وفي ظل تلك الوهمية أُسس مفهوم «القوة والضعف».
إن المفهوم الأولي «للقوة» اعتمد على «معيار فاعل التجمع» «وحدة التشابه»؛فكلما اتسعت دائرة فاعل التجمع بالتشابه زادت قوته ؛وبذلك فإن مفهوم القوة هنا يعود إلى «معيار كمي».
ونوعية هذا المعيار هي التي أصبحت تتحكم في دلالات القوة، سواء أكانت تلك الدلالات «عدد» أو «سلاح» أو «مال».
وحتى ما قد نبعده عن ذلك المثلث من المؤثِرات باعتبارها مؤثِرات مستقلة عن طغيان ذلك المثلث مثل العلم والإعلام والثقافة والقانون فاستقلالها غير ممكن أو حقيقي؛لأن من يملك «قوة العدد» أو «قوة المال» أو «قوة السلاح» يملك التحكم في العلم والإعلام والثقافة ،ومن يملك العلم والإعلام والثقافة يستطيع فرض «وحدة التشابه» بين البشر وتهديد خاصية التنوع.
وما هي العولمة إلا محاولة لتدمير خاصية التنوع البشري لمصلحة «فرض وحدة التشابه لفاعل القطب الواحد والرأسمالية السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والإعلامية والرقمية».
وبذلك فالبشرية تعود دائما من حيث بدأت من المعيار الكمي «لوحدة تشابه فاعل التجمع»على اعتبار أن وحدة التشابه هي مؤسِس القوة والغلبة لا خاصية التنوع كما تقتضيه طبيعة القوة الحقيقية،هذا الميل المادي للقوة من خلال وحدة التشابه هو الذي أسس منطق ثقافة» القبيلة والجيتو والمستوطنات» ،كما أن هذا الميل المادي للقوة من خلال وحدة التشابه هو الذي أسس منطق ثقافة « العسكريات والبوليسيات» وهو ذاته الميل الذي أسس منطق ثقافة «فئات البلاك بلوك» سواء كانت تحت عناوين الصعاليك أو العصابات أو المافيات أو المتمردين.
إن «الفلسطيني المقنع» هو أول من مارس «ثقافة البلاك بلوك» مواجهة «الظلم بالعنف».
فهل ظاهرة «البلاك بلوك» التي ظهرت بين شباب مصر ستعلّم الشباب العربي مواجهة الظلم والقهر بالعنف؟.
وهل ستصبح ثقافة البلاك بلوك القائمة على العنف والتدمير والتخريب ثقافة الشباب العربي ما بعد ثورة الربيع لمواجهة الفقر والبطالة والقهر وفرض التغيير.
كل مجتمع مسئول عن ثقافة أفراده –أو هكذا أعتقد-.
- جدة