إن المناظرة (Debate) فن أصيل في ثقافتنا العربية الإسلامية، وقد أرسى القرآن الكريم أركان هذا الفن، مؤكدا أن المناظرة هي أرقى سبل الإقناع والمحاورة، وقدم لنا القرآن الكريم نماذج رائعة في فن المناظرة والحوار بين الأنبياء وأقوامهم، وبين الأب وابنه، وبين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، بل بين الله عز وجل وملائكته في قضية خلق آدم عليه السلام؛ وفي عصر النهضة الحضارية للعرب والمسلمين ازدهر فن المناظرة وعقدت للمناظرة المجالس وكتب فيها كتُاب كُثر.
ولتأصيل هذا الفن في المجتمع العربي المسلم، لابد وأن يكون منهجا معتمدا في الأسرة، والمؤسسات التعليمية، وتؤكد عليه وسائل الإعلام والمساجد، ولما كانت المدارس والجامعات في المجتمع هي التي تتولى تربية النشء وتنميته بطريقة منهجية ورسمية، فإنه يجب اعتماد منهجية التأصيل لهذا الأسلوب التربوي، واعتماد منهجية التمكين له في مؤسساتنا التعليمية.
لماذا يجب إعداد مجتمعات مناظرة (Debating Societies) وخاصة في المؤسسات التعليمية؟
لأننا في هذه المرحلة بالذات من تاريخنا المعاصر، الذي بات تطرف المجتمع العالمي فيه واضحا وجليا تجاه الدين الإسلامي والمسلمين، لاقتران هذا الدين الإسلامي بأحداث إرهابية عنيفة - وهو براء منها - هزت وزعزعت الأمن العالمي والفكري، وأفقدته الثقة بمصداقية هذه الدين واحترام من يعتنقه، بأمس الحاجة إلى الاستفادة من هذا الفن التربوي الأصيل في ثقافتنا لإعداد مجتمع واعي بما يدور حوله، ويدلس على ثقافته الإسلامية، وينسب لدينه من أحداث متطرفة، منفتح الفكر غير متطرف أو متعصب، محترما للديانات بل والثقافات بأكملها على اختلافها، متسلحا بمختلف المهارات التي تمكنه من الدفاع عن دينه وثقافته الإسلامية، والمجادلة بالحسنى والتحدث والحوار والنقاش والإقناع بكل هدوء وروية، ساعيا لإظهار حقيقة هذا الدين المتسامح المتناغم مع نفسه وغيره من مختلف الديانات، متذرعا بالحجج والأدلة والبراهين التي تبرئ ساحته من كل مظاهر العنف والإرهاب.
إلى جانب ما يقوم به الربيع العربي الآن من أعمال عنف وشغب أحرمته من ممارسة حريته بطريقة مشروعة، وأبعدته عن الحصول على حقوقه بطريقة سلمية، ليقدم بذلك للجيل الحالي نماذج لا يحتذى بها في التعبير عن الرأي والمطالبة بالحق، فتصبح المناظرات سبيلا ناجعا للمحاججة والتفنيد والتحليل بالواقع المرير، والتنوير والتبصير بالممارسات الحضارية للحريات والحقوق الديمقراطية.
وتكاد تكون قضية انصهار الهوية العربية وذوبانها في الهوية الغربية من الإشكاليات والتحديات التي تواجهها النظم التعليمية والمؤسسات التربوية على اختلافها والتي تحتاج لأن تكون أساسا للمناظرات في المجتمع الكبير أو على مجتمع المدارس والمؤسسات التعليمية كمجتمع صغير، لتصبح موضع نقاش وحوار ما بين معارض ومؤيد تظهر الحقيقة الجلية في النهاية للعقول الشابة الندية.
وليس معنى ما سبق أن يقتصر إعداد مجتمع المناظرة هذا على تناول القضايا الدينية، والثقافية فقط، فالقضايا كثيرة ومتنوعة وتهم المجتمع المحلي والعالم بأكمله، وتعد هذه القضايا الأساس للمناظرات سواء كانت قضايا اجتماعية كالفقر، الرياضة، المخدرات، والإرهاب المجتمعي أو على مستوى التعليم، البيئة، الاقتصاد، ووسائل الاتصال والإنترنت، وغيرها من القضايا.
وتعتمد المناظرات عدة أساليب، ويكاد يكون الأسلوب الشائع من أساليب المناظرات ما هو متبع في كثير من الدول وخاصة في بطولة العالم لمناظرات المدارس، ويتطلب هذا الأسلوب من المناظرات وجود فريقين في كل مناظرة يتولى أحدهما تأييد القضية المطروحة ويسمى «فريق الموالاة» ويتولى الآخر معارضتها ويسمى «فريق المعارضة»؛ يستخدم كل فريق نوعين من الحجج لدعم موقفه إزاء القضية المطروحة، النوع الأول وهي حجج جوهرية مستقلة، وهي الحجج التي يعدها كل فريق ليدعم موقفه إزاء القضية المطروحة، والنوع الثاني الحجج التفنيدية، وهي الرد على حجج الفريق المعارض.
وبنشر ثقافة المناظرات في المجتمع الواحد وبالأخص في مؤسساته التعليمية، ينشأ جيل واعٍ يفكر بطريق تجديدية (خارج الصندوق)، ناقد تحليلي (غير ساذج وتقليدي)، واثق بدرجة كبيرة، يعبر عن رأيه بكل حرية، يدافع عن نفسه دون اللجوء للعنف، يتواصل مع مجموعة كبيرة من الناس، قادر على المساهمة الفعالة والتعاطي مع القضايا المجتمعية (مواطنون مسؤولون)، كما كشفت دراسات كدراسة آرلان أ.نارفاييز، ر.، بعنوان: «مزيد من الخبرة في فن المناظرة كأداة للتطور الاجتماعي» عن أن المناظرات تزيد من انتظام الطلاب في المدارس، وترفع من أدائهم الأكاديمي، ونجاحهم في الحصول على القبول والمنح الدراسية للدراسات الجامعية.
وعلى الصعيد العالمي يعد برنامج المناظرات العامة (PDP) من أكبر وأسرع شبكات التوعية التناظرية نموا في العالم، صمم لتسريع التعلم القائم على المعايير، ويضمن فرصا للتناظر والنقاش على مستوى المدارس والجامعات والمجتمع بأكمله، ويشجع المشاركة في اتخاذ القرارات، بالتعاون مع المدارس الثانوية والجامعات والمكاتب الحكومية، والمنظمات غير الحكومية والتعليمية وغيرها.
أما على الصعيد العربي فيعد مركز مناظرات قطر - عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع - نموذجا متخصصا في نشر ثقافة المناظرة، وتأسيس فن المناظرة العربية داخل البيئة العربية انطلاقا من أسس عربية ومقاصد وغايات تربوية خدمة للغة والثقافة العربية، إلى جانب تدريب طلاب المدارس والجامعات والمعلمين في دولة قطر، وفي أنحاء الوطن العربي على فن المحاورة والمناظرة، وعقد البطولات للمناظرات على مستوى المدارس والجامعات سواء أكان على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
ما المهارات التي يكتسبها المجتمع المناظر في المؤسسات التعليمية
تكسب المناظرات طلاب المدارس والجامعات وكذلك المعلمين العديد من المهارات القيمة التي لم تأخذ حقها بعد من الاهتمام في مناهجنا التعليمية من أهمها:
- مهارة التعبير والمناقشة.
- مهارة المحاججة والدحض (بالأدلة والبراهين).
- مهارة الإقناع (بالأدلة والبراهين).
- مهارات الاتصال الفعالة بين طرفي المناظرة أو فريقي المناظرة.
- مهارات الخطابة العامة وهي فن التحدث أمام الجمهور والأماكن العامة.
- المهارات التحليلية وهي القدرة على التحليل النقدي للقضية محور المناظرة.
- مهارات البحث (من مكتبة الأبحاث التقليدية إلى شبكة الإنترنت).
- مهارات الإنصات وأخذ الملاحظات.
- مهارة اتخاذ القرار.
ختاما ألا نطمح لخلق هذا الجيل المناظر في مؤسساتنا التعليمية؟ أترك الإجابة لكم.
- الرياض